المواطنة العالميّة في التربية العربيّة
المواطنة العالميّة في التربية العربيّة
عبد الجليل عكّاري | أستاذ التعليم الدوليّ والمقارن، مدير كليّة التربية في جامعة جنيف- سويسرا

يلقى موضوع المواطنة العالميّة اليوم اهتمامًا كبيرًا على مستوى العالم، لكن ماذا عن الوضع الراهن لهذه القضيّة في العالم العربيّ؟ سأحاول خلال هذه المقالة أن أحلّل الفرص، والتحدّيات المتعلّقة بترسيخ مفاهيم المواطنة العالميّة في الوطن العربيّ.

انتشرت لفظة "المواطنة العالميّة" مع قيام الأمم المتّحدة _بصفة خاصّة منظّمة اليونسكو_ على نشر مفهوم "التربية على المواطنة العالميّة" في أنحاء العالم أجمع. ركّزت منظّمة اليونسكو منذ بدء عملها عبر عقود من الزمان على قضيّة بناء السلام في العالم قبل التطرّق إلى مفهوم التربية على المواطنة العالميّة، ومن الجدير بالذكر أنّها استخدمت مصطلح "العيش معًا" الذي نشر على نطاق واسع في تقرير (التعلّم ذاك الكنز المكنون) لـ Delors عام 1996.

في عام 2015 حدّد (إعلان إنشيون) الذي أطلق جدول أعمال التعليم الدوليّ 2030 تعليم المواطنة العالميّة بوصفها قضيّة محوريّة، وفي هذا الإطار استرشدت منظّمة اليونسكو بخطّة التعليم لعام 2030، إذ إنّ الغاية السابعة من الهدف الرابع من أهداف التنمية المستديمة تركّز على التربية من أجل المواطنة العالميّة، وتدعو اليونسكو بصورة مستمرّة بلدان العالم إلى ضرورة "ضمان اكتساب جميع الطلّاب للمعرفة والمهارات الضروريّة لتعزيز التنمية المستديمة، وهذا يتضمّن التعليم من أجل التنمية المستديمة، وأنماط الحياة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وتعزيز ثقافة السلام واللاعنف، والمواطنة العالميّة، وتقدير التنوّع الثقافيّ، ومساهمة الثقافة في التنمية المستديمة".

 

مع ولوجنا القرن الحادي والعشرين يُثار سؤال على الأصعدة كلّها: ما مبرّر التركيز الكبير على هذه الغاية على وجه التحديد؟ من منظوري الشخصيّ، أعتقد أنّ فكرة المواطنة العالميّة تركّز على ثلاث قضايا حيويّة، هي: المواطنة، والتعليم، والعولمة. وهي تعكس تداعيات العالم حاليًّا، خصوصًا بعد الانفجارين، المعرفيّ والتكنولوجيّ، وما أفرزته من الأزمات في كيفيّة التعامل مع هذه القضايا الثلاث. قد تكون حدّة هذه الأزمة في هذه القضايا المرتبطة بالمواطنة العالميّة، وتداعياتها أعمق وأشدّ في العالم العربيّ على وجه التحديد، إذ هي موجودة في بقاع الأرض الأخرى، لكن بنسب متفاوتة.

مع التقدّم المُحرَز في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربيّة في هذه القضايا، ما زالت فكرة المواطنة العالميّة فكرةً مجرّدةً ليس لها تطبيق عمليّ تربويّ على أرض الواقع، وقد يكون مردّ هذا ارتباط المواطنة لدينا بمسقط الرأس دون الالتفات إلى المعمول به في بقاع العالم الأخرى، ودون التفاعل مع الآخر، والغريب في الأمر أنّ الشباب العربيّ أيضًا يعتنق هذه الفكرة جزئيًّا.

هذا قد يقود إلى الادّعاء المقرون بالأدلّة الدامغة المستندة على نتائج بحوث كثيرة بوجود مستوى غير مُرضٍ من التعليم في كثير من الدول العربيّة، مقارنةً ببعض دول العالم التي تتشابه مع الدول العربيّة في بعض الخصائص الديموغرافيّة والاقتصاديّة.

أرى أنّه حان الوقت لإعادة صياغة دور المدرسة، إذ إنّها يجب أن تركّز على مهمّتها الرئيسة في بثّ الأمل، لقدرتها على تمكين الأجيال القادمة من التطوّر المهنيّ والاجتماعيّ، ذلك أنّ التعليم في الدول العربيّة ركّز على الكمّ لا النوع، فأصبح حاملو الشاهدات لا يجدون فرص عمل جيّدة، وهذا يمتدّ إلى غير المتعلّمين نظرًا لعدم وجود مشروعات رياديّة توفّر فرص العمل للجميع. هكذا، نرى أنّ الشعور العامّ لدى فئة الشباب هو الإحباط، ويسود بينهم الظنّ أنّ قادم الأيّام لا تحمل إلا البؤس واليأس، فهم لا يستطيعون تأمين أبسط متطلّبات الحياة.

على صعيد آخر، لم تضف العولمة، لا سيّما في شقّها الاقتصاديّ، جديدًا إلى لعالم العربيّ، سوى أنّها جعلته أكثر استهلاكًا للتكنولوجيا، وفي هذا العالم الذي بات قريةً صغيرةً، المستهلك هو الخاسر الأكبر. إنّ كثيرًا من الدول العربيّة لم تتمكّن، مع الأسف، من جني أيّ من أرباح العولمة، بل وخسرت في المجالات جميعها.

 

حول مفهوم المواطنة العالميّة من منظور تربويّ، خصوصًا في العالم العربيّ، قد يشوب الاتّفاق على مصطلح تربويّ لهذه القضيّة باللغة العربيّة شيء من الإشكاليّة، وهذا الشيء لم يظهر فقط باللغة العربيّة، فهو موجود في اللغة الألمانيّة أيضًا.

من وجهة نظريّ، بات من الضروريّ التغلّب على هذا التحدّي، وذلك بتمكين المعلّمين والتربويّين من فهم مغزى هذا الموضوع وعمقه. المواطنة الوطنيّة هي جزء محوريّ من المواطنة العالميّة لا يمكن فصله عنها، وهذا يستدعي على نحو ملحّ أن تبدأ النظم التعليميّة في البلدان العربيّة المختلفة بمراجعة المناهج، والكتب المدرسيّة، ومدى وعي واضعيها بمفاهيم المواطنة العالميّة، وعلاقتها بالمواطنة الوطنيّة. هذه المراجعة ضروريّة من باب أنّ المناهج الحاليّة تركّز على موضوعات ذات طابع توجيهيّ معياريّ، دون النظر نحو الجزء الآخر من العالم، وقد تكون الجائحة التي يعيشها العالم مثالًا على المعرفة العالميّة التي يجب أن يعرفها المتعلّم في سويسرا وفي جنوب أفريقيا، والأردنّ، وسوريا، وهاييتي، دون المساس بمعرفة وضع الوباء على الصعيد المحلّيّ، وندرك أنّنا لن ننجو من الوباء حتّى لو لم يبقَ أيّ مصاب في البلد الذي نعيش فيه، ما دام ثمّة مريض واحد، حتّى لو كان في النصف الآخر من الكرة الأرضيّة، وهذا ينطبق على المهارات والقيم العالميّة والإنسانيّة، لا يوجد نظام تربويّ لا يريد من المتعلّمين ألّا يحترموا آراء الآخرين، ويكون لديهم مسؤوليّة اجتماعيّة وبيئيّة.

لتحقيق المخرجات التربويّة للتعليم من أجل المواطنة العالميّة، أقترح أنّه بات من الضروريّ التركيز أكثر على الخبرات التعلّميّة التي يجب أن توفّرها المدارس إلى جانب تطوير المناهج الدراسيّة. يمكن توفير الخبرات التعلّميّة التي تعزّز هذا الموضوع من خلال مشروعات حقيقيّة تجعل المتعلّمين يفكّرون بالقضايا المتضمّنة فيه، مثل: نبذ العنف، وقبول الآخر، والتنوّع الثقافيّ، والسلام، واحترام الآخرين وآرائهم، والمساواة بغضّ النظر عن الجنس، أو العرق، أو الدين، أو اللون، أو أسلوب الحياة، كلّ هذا يجب ألّا يتمّ بطريقة نظريّة، بل يكون بالتطبيق العمليّ المستند على الأنشطة، والمواقف التطبيقيّة مثل: مَن بين الطلبة تستبعِده المدرسة ومَن تدمجه؟ من المندمج ومن المستبعَد في مجتمعي المحلّيّ؟ من هو الساكن المندمج ومن المستبعَد في بلدي؟ وكذلك بطبيعة الحال: من هو المندمج والمستبعَد في العالم ككلّ؟

الفكرة هنا هي جعل الطلّاب على دراية بالأصول المتعدّدة للتمييز في العالم المعاصر، التي يمكن ربطها بالعِرق، والجنس، والفئة الاجتماعيّة، والعديد من العوامل الأخرى. يلي ذلك حثّ الطلّاب على تحديد طرق "العيش معًا" على مستوى الفصل الدراسيّ، أو المدرسة، أو المستوى المحلّيّ، أو الوطنيّ، أو العالميّ، بما يتجاوز اختلافاتنا، ويعبُر هويّاتنا.

خلاصة القول هي أنّه بات من الضروريّ العمل على تعزيز مفهوم التعليم من أجل المواطنة العالميّة، وهذا يستلزم من المعلّمين والمربّين في العالم العربيّ الخروج من صفوفهم الدراسيّة للعمل في مشروعات تعليميّة مع طلّابهم، لاستكشاف معنى مفردات مثل: "الكرامة"، "المساواة"، "الإنسانيّة" في بيئاتهم الاجتماعيّة والثقافيّة. هذا هو شرط عدم البقاء في المستوى النظريّ عند التعامل مع هذا المفهوم المهمّ لمستقبل التعليم في العالم العربيّ.