العربيّة بين بلاغة الحضور والغياب
العربيّة بين بلاغة الحضور والغياب
2022/02/05
حاتم المشي | معلّم لغة عربيّة

للعربيّة مكانة أثيرة في المنظومة التربويّة الوطنيّة. وهي مكانة ناجمة أساسًا عن الوعي بالدّور المركزيّ الذي تنهض به هذه المادّة في سبيل ضمان بلوغ المدرسة ما رسمته لنفسها من مقاصد ورهانات، ذلك أنّ العربيّة سبيل المتعلّمين الأوّل في التواصل مع الآخرين، والتّعبير عن المفاهيم، والمعاني الذّهنية، والوجدانيّة، والكشف عن الحاجات اليوميّة، والأغراض المتّصلة بحياة العصر، فكرًا وعلمًا وأدبًا وحضارةً، ما يتقاطع مباشرة مع وظيفة أساسيّة من وظائف المدرسة التي صارت مدعوّة إلى "تطوير ملكات التواصل، وتوظيف كلّ أنواع التعبير اللغويّ، والفنّيّ، والرمزيّ، والجسمانيّ..."، بحكم حاجة الفرد اليوم إلى التواصل مع الآخرين تواصلًا يضمن له أمان العيش، ويوفّر له أسباب السّعادة، والوسائل اللاّزمة لفهم العالم من حوله، وتفسير ما يحفل به من ظواهر.

وفضلًا عن هذا البعد، فإنّ المدرسة مدعوّة إلى "تمكين المتعلّمين من إتقان اللّغة العربيّة بصفتها اللغة الوطنيّة"، ولهذا فإنّ هذه اللّغة هي الوسيلة التي يتجذّر بها المتعلّمون في هويّتهم الوطنيّة فينشؤون "على الوفاء والولاء والحبّ للوطن والاعتزاز به". نشأة يحقّقون بها الامتداد الوجدانيّ، والفكريّ، والثقافيّ، بين حاضرهم وماضيهم، فيتأصّلون دون عناء في الحضارة العربيّة الإسلاميّة تأصّلًا تكونُ فيه اللغة سبيل تواصل مع الموروث من جهة، وعماد هويّة حضاريّة ليس الشّعور بها في مدرستنا العربيّة إلّا بُعدًا من أبعاد شخصيّة منشودة تؤمن بالإنسان، وتنبذ الانغلاق والتعصّب، وتتفتّح دون استلاب على منجزات الإنسان في سائر الثّقافات، وغير العربيّة من الحضارات.

 

تقوم اللغة العربيّة على ثلاث مهارات رئيسيّة لازمة لكلّ تواصل لسانيّ وهي: القراءة والكتابة والتواصل الشفويّ. إنّ هذه المهارات ببعدها الشامل، وطبيعتها المركّبة أساسيّة في تعلّم اللّغات، إذ لا حديث عن اللّغة دون مشافهة أو قراءة أو كتابة، أي أنّ شرط التواصل اللغويّ تمكّنٌ من آليّات الترميز والتّفكيك، سواء كان ذلك في إطار بلاغة الحضور (المشافهة)، أم في إطار بلاغة الغياب (الكتابة والقراءة). كما أنّ هذه المهارات وظيفيّة في تحويل التواصل اللغويّ إلى مهارة كبرى تنتظم في ذاتها كلّ أبعاد التعلّم الإنسانيّة، إذ بالقراءة يتمكّن المتعلّمون من الاطّلاع على منجزات الحضارة الإنسانيّة أدبيّة كانت، أم علميّة، أم اجتماعيّة، أم فلسفيّة، وبالكتابة يتحوّلون إلى وضع المنتج الرّاغب في مدّ جسور من التّواصل مع الآخرين عبر بلاغة الغياب تدوينًا يستجيب في ملامحه العامّة إلى ما يعرض للمتعلّمين من وضعيّات، وبالتواصل الشفويّ يكتسبون ما به ييسّرون سبل العيش مع الآخرين تقبّلًا وإبلاغًا وفهمًا وإفهامًا.

ومثل هذا الأمر يضاعف من دور اللغة عامّة واللغة العربيّة خاصّة، ليجعل تعلّمها وتملّك آليات إنتاج المعنى فيها موكلًا إلى تصوّر مستحدث لعمليّة التعلّم يقطع مع تجزئة المعارف، ومع البعد التراكميّ الكمّيّ ليؤسّس تصوّرًا اندماجيًّا تتراشح فيه المعارف، وتتواصل المهارات لا باعتبارها مجالات تعلّم صغرى، إنّما باعتبارها وجوهًا متماسكة لازمة لتملّك اللغة مجالَ تعلّم، ووجهًا عمليًّا به يُدرك أنّ التواصل مهارة أفقيّة ليس لأحد غنى عنها.

 

إنّ تملّك المتعلّمين لهذه المهارات الثلاث يُتيح لهم فرصًا متجدّدة كي يستكشفوا ما بينها من وشائج، فيدركون أثرها، مجتمعةً، في ضمان تواصل ناجع مع الآخرين، ومع المعرفة أيّا كان نوعها، فيصيرون بذلك أكفّاء من خلال تمكّنهم من بناء المعنى، وإحكامهم التصرّف في ما يعرض لهم من مقامات التواصل، واكتسابهم معارف جديدة، وتبنّيهم رؤى نقديّة، وحسًّا تقويميًّا يتفاعلون به مع ما يعرض لهم من أوضاع من خلال تربية النفس على تذوّق مَواطِن الجمال في الخطاب وتعليل ذلك، وعلى الإبداع كتابة، أو مشافهة إبداعًا تصبح معه الكتابة أو حسن التّواصل شفويًّا أو القراءة عادةً وسلوكًا يوميًّا.