التّعليم عن بُعد: فرصة للتأمّل
التّعليم عن بُعد: فرصة للتأمّل
2021/02/07
أُميمة المشيشي | طالبة دراسات عُليا- المغرب

يقول أحد الطّلبة مازحًا على فيسبوك: "دَرَسْت، اجتزت الاختبار، نجحت، ونسيت ما تعلّمته". إنّها تدوينة ساخرة أثارت في ذهني الكثير من التساؤلات: لماذا ندرس؟ أنَدرس لنتعلّم أم لنحظى بوظيفة؟ أنَدرس لنبني عقولنا ونَكُونَ جيلًا سويًّا نفسيًّا، وعقليًّا، وفكريًّا، جيلًا باستطاعته الإبحار لاكتساب معارفَ ومهارات علميّة يُطوّر بها نفسه ومجتمعه، أم أنّنا نَدْرُس لنجتاز اختبارًا ونلج بعده مباشرة سوق العمل، وعندئذ نتخلّص من كل ما تعلّمناه باعتباره لا يُساوي شيئًا أمام أجرة نَتقاضاها في نهاية كل شهر.

أخشى أنّ التّعليم أصبحَ مجرّد أداة للفوز بالوظيفة لضمان قوت اليوم؛ فتحوّل الإنسان إلى إنسان بنكهة روبوت غارق في سبات شتويّ عميق.

مع التحوّلات التي شهدتها الآونة الأخيرة، بسبب جائحة كورونا، شَهِد العالم تغييرًا جذريًّا على عدد من الأصعدة، منها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والتربويّ، ما أحدث اضطرابًا شمل مجال التّعليم، كما هو الحال أيضًا في بلد المغرب، إذ أُغلقت المدارس بقرار حكوميّ للحدّ من انتشار الوباء، وعمّ الفرح نفوس الطّلبة المغاربة وهم يتطلّعون لإعلان سنة بيضاء، لكنّ للحكومات منطق آخر جعلها تقرّ أسلوب التّعليم عن بُعد، ليُضاف تحدّ جديد أمام منهجيّة تربويّة وتعليميّة ضعيفة، فحسب ترتيبات المنظّمات الدَّوليّة، التّعليم في المغرب يأتي دائمًا في قاع الترتيب، وأيضًا تحدّ آخر أمام شبكة اتصال أقلّ ما يقال عنها إنها ميتة، فتظافرت شروط غير ملائمة للحياة وللتعلّم، خاصّة  أمام الفئات التي لا تتوفّر لديها تقنيات التواصل الحديثة، بسبب وضعها المادّيّ الذي لا يؤهّلها لمواكبة العصر.

لقد عرّى الوباء واقع التّعليم، لكنّه قدّمَ للعالم درسًا في التخطيط لحالات الطوارئ، وألزم الحكومات بالنهوض لتحسين جودة التّعليم والانفتاح على التكنولوجيا الحديثة وتقريبها، والاستعانة بها، بل وجعلها أسلوب حياة. والجانب الأكثر إشراقًا هو أنّ التّعليم عن بُعد، بالرغم من تعريته للواقع الكارثيّ لنظام التّعليم، إلّا أنّه كان فرصةً استثنائيّةً لفحص ودراسة رغبة الطلّاب في التعلّم وتغيير بعض مفاهيم التعلّم لديهم باستعمال أدواتٍ حديثة.

 

وبفضل التّعليم عن بُعد، لم يعد فهم الطَّالب يقتصر على الشّرح داخل حجرات الدراسة، بل استطاع الاستفادة أو اكتساب معارفَ جديدة بفضل التعلّم الذاتيّ، وهذا ما أصبح معمولًا بهِ أكاديميًّا بهدفِ مواكبة كلّ مجال علميّ، وتوفير برامج تعليميّة للطلّاب بأقلّ التكاليف الماليّة، لذلك أرى أنّ تفعيل التّعليم عن بُعد، مع ضرورة توفير كلّ المُستلزمات، سيعطي نتائج هائلة ويخلق جيلًا يعتمد على تعلّمه بنفسه؛ أنتَ معلّم وأستاذ نفسك والقلم رفيقك، وستكون حينها الفرصة فرصتك، والحلّ بين يديك، لتثبت أنّ الناجح عينه على الهدف، فضلًا عن أنّ كلّ ما يحتاجه الطالب هو شبكة اتصال قويّة وألواح رقميّة، حتى إنّ الطالب هنا يمثّل نفسه ومجهوده دون أن ننسى أنّ التعلّم الذاتيّ هو مناسبة لتحقيق تكافؤ الفرص، واعتماد مناهج واستراتيجيّات شخصيّة في بناء المعارف دون تعقيدات، وبطريقة بسيطة تختلف من متعلّم لآخر. كذلك فهو فرصة للانفتاح على التكنولوجيا الحديثة من برامج وتطبيقات، والانخراط في الدورات التكوينيّة المجّانيّة، بشرط توفير الإمكانيات اللّازمة.

منذ أن قرّر المغرب اعتماد التّعليم عن بُعد وتلقّي الدروس عبر التطبيقات والمنصّات الرقميّة المُتاحة، تلقينا في بدء الأمر مجموعة من الصعوبات، الأولى متعلّقة في التكيّف مع الوضع الجديد والخروج من الطريقة البدائيّة أو التقليديّة للدراسة. والثانية متعلّقة بالمشاكل التقنيّة وضعف شبكة الإنترنت. غير أنّ هذه الصعوبات لن تقف حاجزًا أمام من يملك الرغبة في التعلّم والرفع من مستواه التّعليميّ والثقافيّ.

 

انطلاقًا من تجربتي كطالبة، كان واقع التعلّم عن بُعد ناجحًا، في مناخٍ مُريح؛ فبعد أن آخذ قسطًا من الراحة أُباشر عملية البحث والتكوين الخالي من أي ضغوط خارجيّة، أنا وحاسوبي الخاصّ نُبحر في عالمنا، وكلّما أحسست بتشتّت التركيز أستريح لأستجمعَ قوايّ مرّة أخرى. إنّها منهجيّة رهيبة تُحفز الخلايا الدماغيّة فيصبح العقل قادرًا على الاحتفاظ بالمعلومات أكثر وتَنشُط الرغبة في متابعة الدراسة باهتمام، علاوة على أن التعلّم عن بُعد يحفّز الرغبة في استطلاع شتّى المجالات، حتى لو كانت أقلّ صلةً بتخصّصي، وسواء كان موضوعها علميًّا أو أدبيًّا.

الدراسة من المنزل جعلتني أركز في دروسي بشكلٍ مُستمرّ وهذا يرجع لطبيعة شخصيّتي في ممارسة التعلّم حيث أجدني أكثر في التعلّم الاستقلاليّ، إذ أكتشف في نفسي أشياء كنت أجهلها، أتعرف على نقاط قوّتي وضعفي، أستطيع اختراع طرق إبداعيّة في التعلّم، أغوص في البحث عن المعلومة، أطوّر مهاراتي في حلّ المشكلات، أُعبّر عن ذاتي، أستمتع بكامل حريّتي في طرح الأسئلة وفي المقابل أنا دائمًا من تبحث عن الأجوبة؛ كلّ جواب يفتح النقاش لطرح سؤال آخر لا الوقت يزاحمني في البحث، ولا سلطة الأستاذ في التوقّف عن السؤال. والجميل أيضًا أنّ الكلّ أصبحَ يستخدم الجانب المشرق للتكنولوجيا، فتمّ عقد جلسات صلح معها والاقتراب منها والتعرّف عليها، ونظرًا للعصر الحديث المواكب للتكنولوجيا الرّقميّة إذًا فاستعمالها بشكلٍ صحيح واجب.

تجربة التّعليم وراء الشَّاشة صاحبت مجموعة من التحدّيات كغياب الخبرة في استخدام التقنيّة أو بالأحرى الانتقال من المستوى المتوسّط إلى الجيّد المُتمثّل في الانفتاح على برامج وتطبيقات مهمّة، تُساهم في تسهيل سيرورة العمليّة التّعليميّة التعلّميّة، إذ أصبحتُ أتقنُ استخدام مجموعة من البرامج الحديثة كما انخرطت أيضا في عدّة دورات تكوينيّة، وبالرغم من العراقيل التي واجهت هذا النظام، أعتبرها تجربةً ناجحة وفرصة مهمّة، لأنّها استطاعت سدّ مجموعة من الثغرات.

 

ومن الجدير بالإشارة، عدم صلاحيّة هذا النظام لتلاميذ السلك الابتدائي، من وجهةِ نظري، بسبب كونهم في مرحلة الطفولة المبكّرة، التي يكتسبون فيها أبجديات التعلّم ومهاراته بدعم من الأهل والمُدرّس، فهم يحتاجون توجيهات قَبْليّة. 

لا يختلف اثنان على أنّ التّعليم عن بُعد يعرف اختلالات مهمّة؛ الكلّ يتساءل عن كيفيّة مواصلة التعلّم بهذا الأسلوب والتعايش معه. وإلى حدود هذه الأسطر فالتّعليم في جلّ البلدان العربية لم يأخذ بعد مجراه الطبيعيّ، والأمل معقود على الإصلاح.

ويبقى السؤال الغامض مطروحًا: أي النظامين أحقّ باعتماده وتطويره لإصلاح منظومة التّعليم، التّعليم عن قُرب أم التّعليم عن بُعد؟

نرى أنه في ظلّ الظروف التي فرضها فيروس كورونا، وبناءً على غياب أي إشارة توحي باختفاء الفيروس قريبًا، وربما يأخذ عُمرًا من حياتنا، فإنّنا نخلص إلى وجوب إصلاح التّعليم عن بُعد أولًا، فمواصلة التعايش والعمل في هذه الظروف أمر محتوم، فكيف إذًا ستكون مسيرتنا التعلّمية في هذه المرحلة وما بعدها؟