حين تُذكر كلمة "إعمار" في غزّة، تتبادر إلى الأذهان صورة الركام والمنازل المهدّمة وورشات البناء. لكن، ثمّة إعمار آخر أكثر إلحاحًا وضرورة، هو الإعمار الفكريّ. إعادة بناء الإنسان وعقله ووعيه، بعد أن حاولت الحرب أن تفتك بالذاكرة والروح قبل أن تفتك بالجدران.
الحروب لا تقتل الأجساد وحدها، بل تترك وراءها فراغًا معرفيًّا وثقافيًّا ونفسيًّا هائلًا. فأطفال غزّة، الذين حُرموا من مدارسهم لشهور وسنوات، وجدوا أنفسهم في مواجهة فجوة تعليميّة وفكريّة ضخمة. والشباب، الذين كان يُفترض أن يكونوا عماد المستقبل، حُرموا من الجامعات والمكتبات والأنشطة الثقافيّة، ليجدوا أحلامهم مؤجّلة وأفقهم مغلقًا. وهنا تبرز أهمّيّة الإعمار الفكريّ ركيزةً لبناء مجتمع قادر على النهوض من تحت الركام.
إعادة التعليم إلى مساره ليست مجرّد عملية أكاديميّة، بل فعل بقاء وصمود. كلّ قلم يعود إلى الكتابة، وكلّ كتاب يُفتح من جديد، هو معركة ضدّ العدم وضدّ محاولات اقتلاع الهويّة. فالمناهج المدرسيّة والجامعيّة ليست صفحات دراسيّة وحسب، بل هي جدار يحمي الوعي الوطنيّ الفلسطينيّ والذاكرة الجمعيّة. من هنا، يصبح التعليم في غزّة فعلًا تحرريًّا بقدر ما هو حاجة إنسانيّة. لم تستهدف الحرب على غزّة المباني وحدها، بل استهدفت العقل الجمعيّ والفكر الغزيّ في عمقه. فمع كلّ غارة، كانت تُهدم مكتبة، وتُمحى مدرسة، ويُقتل مثقّف أو أستاذ جامعيّ. بذلك تحوّلت غزّة من فضاء نابض بالمعرفة والإبداع، إلى مدينة مهدّدة بفقدان ذاكرتها الفكريّة. آلة الحرب أرادت أن تجعل الإنسان الغزّيّ مجرّد جسد يبحث عن النجاة، لا عقل يفكّر، ولا روح تكتب وتبدع. وببالغ الأسف، لم تدمّر نار الإبادة الكتب والمراكز الثقافيّة فحسب، بل ضربت البنية النفسيّة والفكريّة للجيل الجديد. أطفال نشؤوا على أصوات الصواريخ بدل أصوات الحكايات، وشباب تفتّحت أعينهم على مشاهد الدم بدل مشاهد المسرح والسينما. هذا التلوّث البصريّ والنفسيّ شكّل عائقًا أمام أيّ عمليّة إبداعيّة أو فكريّة، إذ انشغل الوعي الجمعيّ بمقاومة الصدمة والبحث عن البقاء، بدل التفرّغ للتعلّم والإنتاج الثقافيّ.
الثقافة في غزّة كانت دومًا سلاحًا للثبات والصمود، من الشعر الشعبيّ إلى الأغنية الوطنيّة إلى المسرح والفن التشكيليّ، لكنّها اليوم مهدّدة بالانقراض تحت وطأة الحصار والقصف. المراكز الثقافيّة التي كانت تحتضن الأنشطة باتت ركامًا، والكتّاب والفنانون إمّا استشهدوا، أو شُرّدوا، أو فَقدوا أدواتهم الإبداعيّة. هكذا تحوّل المشهد الثقافيّ إلى لوحة دامية، تتصارع فيها إرادة البقاء مع محاولات الطمس، لتبقى الثقافة الغزّيّة جريحة لكنّها ترفض الموت.
أثبتت الحرب على غزّة أنّ الإعمار الفكريّ لا يتوقّف عند حدود التعليم الرسميّ، بل يمتدّ إلى الثقافة والهويّة. فالفن والأدب والرواية الفلسطينيّة روافع أساسيّة للحفاظ على الكيان النفسيّ والإنسانيّ. في قصص الأمّهات، في أناشيد الأطفال، في الأغاني الشعبيّة والحكايات التراثيّة، يعيش الشعب الفلسطينيّ في غزّة وفي كلّ مكان على رغم الموت اليوميّ. وحين يُحاصر الكُتّاب والمعلّمون والفنانون، يبتكر الشباب مبادراتهم في الأقبية والخيام وبين الأنقاض، ليقولوا بصوتٍ واحد ولغة يفهمها العالم كلّه: الفكر لا يموت.
ولأنّ العالم اليوم يعيش في فضاء رقميّ مفتوح، فالتكنولوجيا والمعرفة الرقميّة يمكن أن تكون جسرًا جديدًا لإعادة الإعمار الفكريّ في غزّة. فالتعليم عن بُعد، والكثير من المنصّات الرقميّة، والمكتبات الإلكترونيّة، كلّها أدوات رقميّة يمكن أن تساعد الغزّيّين على استثمارها لسدّ الفجوة التي خلّفها الحصار والقصف. إنّ بناء عقل فلسطينيّ متّصل بالعالم حصن إضافيّ ضدّ العزلة والإقصاء. كما إنّ المجتمع المدنيّ والمبادرات الشبابيّة تشكّل حجر الزاوية في هذا البناء. فالجمعيّات الثقافيّة، والمبادرات التطوعيّة، والمكتبات الصغيرة التي تُفتح بين الأنقاض، كلّها محاولات لتثبيت الفكرة البسيطة: الحياة لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالمعرفة أيضًا.
ولا يمكن الحديث عن الإعمار الفكريّ من دون الإشارة إلى دور المرأة؛ فهي المعلّمة في الصفوف المؤقّتة، والأمّ التي تعلّم أبناءها وسط النزوح، والكاتبة التي توثّق الحكاية وتحفظ الذاكرة. النساء في غزّة يقدن جبهة صامتة لكنّها جبهة مقاومة فكريّة جبّارة، وهنّ يثبتن أنّ الإعمار يبدأ من حضن الأمّ وكلمة المعلّم.
لكن هذا الطريق محفوف بالتحدّيات. فالحصار المستمرّ على غزّة لمدّة عامين تحت الإبادة، يمنع دخول الكتب والوسائل التعليميّة وأبسط أدوات التعليم والتثقيف. والدمار المستمرّ طال الكثير من قادة الفكر والتعليم والثقافة في غزّة، كما أصبح يشتّت الكفاءات، ويدفع الكثيرين منهم إلى الهجرة. ومع ذلك، يبقى الإعمار الفكريّ ضرورة لا تحتمل التأجيل، لأنّه هو ما يصنع القدرة على النهوض، حتّى في أصعب الظروف.
الرؤية المستقبليّة لغزّة لا تُبنى بالخرسانة وحدها، بل بالإنسان الذي يعرف كيف يحوّل الركام إلى منصّة للانطلاق. فإذا كان الدمار قد طال الحجر، فإنّ العقول الحرّة قادرة على إعادة إنتاج الحياة من جديد. تثبتُ غزّة في كلّ تجارب الحياة زمن الإبادة، أنّ الإعمار الفكريّ هو الضمان الحقيقيّ لبقاء غزّة حيّة، عصيّة على المحو، قادرة على تعليم العالم أنّ قوّة الفكرة أعظم من كلّ آلات الحرب.