الأعقاب: تعليم ما بعد الجائحة.. نظرة إلى التحوّلات التعليميّة والدروس المستفادة
الأعقاب: تعليم ما بعد الجائحة.. نظرة إلى التحوّلات التعليميّة والدروس المستفادة
يوسف حرّاش | مساعد المدير العامّ للشؤون الإداريّة في الأكاديميّة العربيّة الدوليّة -الجزائر/قطر

لعلّ المتمعِّن في جائحة كورونا اليوم، يدرك أنّها لا تعدو أن تكون درسًا من دروس الحياة، سبقته العديد من الدروس المشابهة، وأنّه من الحري بنا، أفرادًا وجماعات، أن نأخذ بالعبر والدروس المُستَخلَصة من هذه التجربة القاسية، حتّى نستطيع المضي قدمًا في رحلة الحياة. وهذا جوهر ما نحاول أن نعلِّمه لطلّابنا اليوم في المدارس، حيث إنّ المشكلات والتحدّيات والأزمات هي فرص تعلُّم حقيقيّة، يجب ألّا نغفل عنها حتّى نغدو أكثر حنكة ونضجًا، وأقدر على خوض غمار الحياة بثقة ورزانة. فالمعلّم الجيّد يعرف أنّه لا ينفكّ يتعلّم دروسًا جديدة، شأنه في ذلك شأن الطالب الذي يعمل على تعليمه وتربيته. 

من أجل ذلك، يتوجّب علينا اليوم، كمعلّمين وقادة في مجال التعليم، أن نقف وقفة نتأمّل فيها التغيّرات التي طرأت على التعليم بعد جائحة كورونا، وكيف أصبح للتعليم واقع جديد يتطلَّب منّا التأقلم السريع والتعاون الدائم. وعليه، أشير في هذا المقال إلى بعض التحوّلات العميقة التي فرضتها الجائحة على واقع التعليم اليوم، ذاكرًا أهمّ الدروس المستفادة منها، والتي يجب على كلّ عامل في المجال التربويّ أن يكون على دراية بها، من أجل ضمان نجاح رسالة التعليم. 

 

التغيّرات التي طرأت على التعليم بعد الجائحة

لا يختلف اثنان على أنّ التعليم في جميع أنحاء العالم كان من أوّل المتضرّرين من جائحة كورونا منذ بداياتها الأولى، فرغم الجهود الحثيثة التي بذلتها الحكومات والمدارس لتخفيف وطأة الجائحة على القطاع التربويّ، لم يكن سهلًا على المعلّمين مواكبة هذا الحدث العالميّ. أدّى ذلك إلى تغيّر بعض ملامح التعليم بدرجات متفاوتة، وبعض تلك التغيّرات لا تزال حاضرة اليوم، ولا يبدو أنّها ستزول قريبًا. وتتمثّل أبرزها بالنقاط الآتية:

 

التعليم الرقميّ والتعليم عن بعد: واقع جديد لا مفرّ منه

قدّم العديد من المؤسّسات التعليميّة في بعض الدول شكلًا من أشكال التعليم الإلكترونيّ، قبل جائحة كورونا، كخيار للمتعلّمين الذين لا تسمح لهم ظروفهم بحضور الدروس وجاهيًّا. ولم يكن الإقبال على هذا النمط من التعليم واسعًا، ولم تكن العديد من الجهات الرسميّة تعترف به، وشكّ كثيرون في مدى فاعليّته وفضّلوا عدم اعتماده. لكنّ الجائحة خلقت واقعًا مختلفًا تمامًا، إذ أصبح التعليم عن بعد الملجأ الأوّل والحلّ الوحيد للواقع الجديد. أفاد المؤتمر الاقتصاديّ العالميّ (2020) أنّ أسعار سوق التعليم الإلكترونيّ، بما يشمله من تطبيقات ومصادر تعليميّة إلكترونيّة، ستقفز من 18.66 مليار دولار في سنة 2019 إلى حوالي 350 مليار دولار في سنة 2025. الأمر الذي يدلّ على مدى جدّيّة هذا التحوّل العميق، وارتباطه الحتميّ بمجال التعليم في المستقبل. ولا يقتصر هذا التغيير على استخدام التكنولوجيا في التعليم استخدامًا يحفظ التباعد بين الطلاب والمدارس، بل يتعدّاه إلى ضرورة تغيير مسار التعليم، من الاعتماد على الأساليب التقليديّة التي تعتمد على الحفظ والاستظهار، إلى التعليم المُعتمِد على تلقين المهارات والتفكير الناقد.

 

توفير الرفاه المدرسيّ للطلّاب لم يعد مجرّد مجهود إضافيّ

تربط مراكز الدراسة البريطانيّة (2022) مفهوم رفاه الطلّاب بسلامتهم وأمنهم وسعادتهم، ذلك أنّ التعلّم يصبح أسهل إذا شعر الطالب بالسعادة والراحة والرضا.  كان الرفاه المدرسيّ، قبل الجائحة، مجرّد مفهوم نظريّ يُدرَّس في الجامعات، ولا يحظى بالاهتمام اللازم في الكثير من دول العالم. كما أنّ تطبيق المفهوم لم يكن سهلًا، ولا ذا أولويّة لدى القائمين على التعليم في شتّى أنحاء العالم. لكن، عندما هدّدت الجائحة بعض الشروط الأساسيّة الواجب توافرها في أيّ بيئة تعليميّة، مثل الأمن والسلامة، أعدنا التفكير في طريقة تعاملنا مع مفهوم الرفاه المدرسيّ، والذي صار بين عشيّة وضحاها مسؤوليّة المجتمع كلّه. لذلك، أصبح توفير الرعاية اللازمة للطالب أمرًا ضروريًّا لحفظه من التأثّر السلبيّ بمحيط سلبيّ ما.

في هذا السياق، تذكر كارديرو (2021) أنّ اكتشاف حاجتنا إلى المزيد من الاهتمام بصحّة طلّابنا الجسديّة والنفسيّة والعقليّة على حدّ السواء كان من أهمّ تأثيرات الجائحة الأخيرة؛ فصحّتهم هذه هي الأساس الذي يُبنَى عليه نجاح أهداف التعليم، الأمر الذي يدعو إلى دعم المناهج والبرامج التعليميّة بمساقات عن التعليم الاجتماعيّ والوجدانيّ للأطفال والمراهقين والكبار، لمحاربة المشكلات الشائعة بين الطلّاب، مثل التشتّت والاكتئاب والوحدة والانتحار. 

 

المعلّم: دور ومهارات جديدة للتعامل مع واقع جديد

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ دور المعلّم، في عصر ما بعد الجائحة، سيكون النقطة المحوريّة في دائرة التحوّلات التي نشهدها في مجال التعليم، ذلك أنّ للمعلّم دورًا رئيسًا في تطبيق التغيّرات التي يمليها الوضع الراهن. فلم يعد المعلّم مصدرًا للمعرفة فحسب، بل قائدًا للطلّاب ومُدرِّبًا لهم وحجر الزاوية في تمكينهم من إتقان المهارات اللازمة، لجعلهم طلّابًا قادرين على اكتساب معارف ومهارات جديدة اكتسابًا ذاتيًّا. هذا الدور، وإن لم يكن جديدًا في مفاهيم التربية والتعليم، أصبح ضرورة ملحّة اليوم في ظلّ ما نشهده من تحوّلات في أنماط التعليم ومناهجه، ولم يعد هناك مجال لتجاهله، لأنّ ذلك يؤخِّرنا عن اللحاق بركب النظم التعليميّة الناجحة، وتردّي مستوى التعليم ومخرجاته. 

 يقتضي تأقلم النظم التعليميّة مع ما يتطلّبه واقع التعليم اليوم إتقان المعلّمين مهارات تربويّة جديدة، مثل: تكييف المحتوى التعليميّ، واجراء التقييم التكوينيّ، واعتماد إجراءات عمل جديدة، والتعامل مع أدوات التخطيط التي تُشجِّع الطالب على التفكير المستمرّ والاستكشاف والتعلّم (اليونسكو وآخرون، 2022). من أجل ذلك سعت الكثير من الحكومات والمؤسّسات التعليميّة إلى توفير حزم تدريب وتطوير مهنيّ للمعلّمين، لمواكبة هذا التغيّر السريع، ولكنّ الطريق لا يزال طويلًا أمام تحقيق أهداف التغيّر بشكل كامل.

 

التعليم: الدروس المستفادة من الجائحة

 

أهميّة دور القيادة المدرسيّة في التعامل مع الأزمات

أظهرت جائحة كورونا قدر المسؤوليّة الملقاة على عاتق القيادة المدرسيّة خلال الأزمات. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المسؤولية كبيرة، وتتطلّب وجود قادة أكفّاء ومحنّكين، لتوجيه التعليم توجيهًا صحيحًا والارتقاء به. لوحظ ذلك منذ بداية الجائحة، حيث إنّ الأزمات تفرض على القادة في المدارس توظيف المهارات والأساليب القياديّة الفعّالة، والتي يلخصّها الطوال (2020) بالآتي:

  • - القدرة على التأقلم والمرونة. 
  • - حسم اتّخاذ القرارات.
  • - وضوح الرؤية المستقبليّة.
  • - تعزيز العلاقات والتعاون المشترك.
  • - التواصل باستمرار ووضوح.
  • - توزيع المسؤوليّات بشكل فاعل (القيادة المشتركة).

 

ضرورة تجهيز المدارس وبنيتها التحتيّة شرط لنجاح التعليم

كان ضعف تجهيز المدارس المعضلة الكبرى التي واجهت التعليم في الكثير من الدول، إثر جائحة كورونا. وعلى الرغم من تعدّد أسباب العجز عن إيجاد حلول لهذه المشكلة، تبقى النتيجة واحدة، وتتمثّل في تهميش السياسيين قطاع التعليم. فأبسط احتياجات المدارس، مثل المياه والصرف الصحّيّ، لا تزال غير متوفّرة في الكثير من المؤسّسات التعليميّة في العالم. وهذا ما يوكّده تقرير فريق مراقبة التعليم العالميّ (2016)، والذي يشير إلى أنّ نصف المدارس في العالم لم توفِّر إمدادات مياه سنة 2013. وبالتالي، كيف يعقل لهذه المدارس أن تكون قادرة على مجابهة أزمة صحّيّة، مثل التي شهدها العالم سنة 2020؟ وكيف يمكننا الحديث عن دمج التكنولوجيا في التعليم في مدارس لا تستطيع توفير المياه لطلّابها وموظّفيها؟

 من هنا، يتعيّن علينا العمل بجهد لإيجاد الحلول الواقعيّة التي تصحّح سوء التقدير الحاصل في أحقيّة قطاع التعليم، بمزيد من الاهتمام والدعم. 

 

التطوير المهنيّ للمعلّمين: سبيل لاستدامة التعليم وازدهاره

يدرك المعلّم بعد تخرّجه أنّه لا ينفكّ يتعلّم داخل المدرسة وخارجها، حيث يضمن هذا التعلّم المستمرّ التجديد المعرفيّ والتقنيّ المتواصل، وتنتج عنه مواكبة كلّ جديد في هذا المجال من جهة، وزيادة القدرة على التطوّر والتأقلم من جهة أخرى. يؤدّي ذلك إلى حصول المتعلّمين على تكوين أكاديميّ حديث يلبّي احتياجات عصرهم. وقد برزت لدى المعلّمين، خلال جائحة كورونا، حاجة ملحّة إلى اكتساب معارف وتطوير مهارات وتقنيّات لم تكن موجودة لديهم. ولم يكن تحصيل هذه المهارات خيارًا، بل ضرورة فرضتها التحدّيات الراهنة، كوسيلة للـتأقلم وتقديم أحسن مستوى تعليم ممكن ومناسب للظروف التي شهدها العالم.

وبرغم أنّ عددًا من المعلّمين اعتمدوا على أنفسهم في تطوير ذاتهم، نظرًا لتراكم الخبرات والتجارب لديهم التي تسمح باختصار الجهد والوقت، إلّا أنّ التطوير المهنيّ المؤسّسيّ المُنظَّم والمُمنهَج يبقى أكثر تأثيرًا وشمولًا. فقد شكّل التطوير المهنيّ وسيلة جوهريّة دعمت التعليم خلال الأزمة الصحّيّة، ولا بدّ أن تستمرّ الجهود بعدها لتحقيق نتائج أكبر. 

 

خاتمة

لا شكّ في أنّ الجائحة الأخيرة كانت ضيفًا ثقيلاً على الجميع، وأثّرت سلبًا في مجتمعاتنا كلّها. لكنّ أحد الأمور الفريدة التي شهدناها، تكاتفُ أطياف المجتمع المختلفة وتعاونهم لمواجهة التهديد الحقيقيّ الذي شكّلته هذه الجائحة، ولا سيّما أنّ هذه الأزمة كانت الأولى من نوعها بالنسبة إلى الجيل الجديد.

كان الترابط الذي حصل في مجال التعليم أبرز أوجه الترابط الاجتماعيّ الذي نتحدّث عنه، حيث نرى ما بذله السياسيّون والقائمون على التعليم والأهل والطلّاب من جهود مشتركة، بهدف تجاوز هذه العقبة وإنقاذ مسار التعليم. يعود ذلك، في جوهره، إلى تيقننا أنّه لا يوجد خيار أمامنا سوى التعاون والوقوف جنبًا إلى جنب من أجل التعليم، بالإضافة الى إدراكنا أنّ التعليم هو المنبع الوحيد الذي تنهل منه الكفاءات التي غدونا في أمسّ الحاجة إليها في وقت الأزمة. وعليه، فاذا أردنا نهضة حقيقيّة في مجال التعليم ونجاحًا في تحقيق أهدافه، فلا بدّ أن يتحمّل كلّ طرف في المجتمع دوره كاملًا، من أجل تقديم الأفضل في المستقبل.

 

 

 

المراجع

- الطوال، عماد. (2020). ما هو دور القيادة المدرسيّة في ظلّ الأزمات؟ البطريركيّة اللاتينيّة. [إنترنت]

- كارديرو، د.ل. (2021). التعليم لأجل الرفاه: الحاجة إلى التعليم النظامي الاجتماعي والوجداني والقيادة المحفّزة. تعطّل التعليم وإعادة تصوّره. 74-79. [إنترنت]

- فريق مراقبة التعليم العالمي. (2016). البنية التحتيّة للمدرسة. التقرير العالمي لرصد التعليم 2016- التعليم من أجل الناس والكوكب: بناء مستقبل مستدام للجميع. 308-209. [إنترنت]

- المؤتمر الاقتصادي العالمي. (2020). جائحة كوفيد 19 غيّرت التعليم إلى الأبد وهذه هي الطريقة. [إنترنت]

- مراكز الدراسة البريطانيّة. (2022). رفاه الطلّاب. [إنترنت]

- اليونيسكو، اليونيسف، والبنك الدولي. (2022). التعلّم بسب كوفيد- 19: إعادة بناء التعلّم الجيّد للجميع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة. [إنترنت]