إنتاج المعرفة بالتاريخ المحكي: بدائل معلّمي التاريخ في مدارس فلسطين
إنتاج المعرفة بالتاريخ المحكي: بدائل معلّمي التاريخ في مدارس فلسطين
روضة غنايم | باحثة في التاريخ الاجتماعيّ والتاريخ الشفويّ - فلسطين

يشكِّل المواطنون الفلسطينيّون في "إسرائيل" جماعة خاصّة ممّن بقي من الأغلبيّة الفلسطينيّة، والتي أصبح أفرادها أقلّيّة، بعد نكبة 1948، وأصبحوا مواطنين في دولة الاحتلال. وعلى رغم بقائهم في وطنهم، إلّا أنّهم خضعوا لتحوّلات كبيرة طرأت على جميع جوانب حياتهم، سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. أثّرت الأحداث المتتاليّة التي مرّ فيها الفلسطينيّون تأثيرًا ملحوظًا في مجرى حياتهم، فسؤال الهويّة والمواطنة في دولة الاحتلال ما زال مفتوحًا ومطروحًا منذ النكبة إلى يومنا الحاضر.

يسلّط هذا المقال الضوء على كيفيّة توظيف التاريخ المحكيّ في تعليم مادّة التاريخ في فلسطين المحتلّة، وفق استراتيجيّات محدّدة، منطلقين من واقع التعليم في المنطقة، والتحوّلات التي طرأت عليها بعد الانتفاضة الثانية.

 

واقع تعليم التاريخ في مدارس فلسطين

 

واقع التعليم قبل الانتفاضة الثانية

في فلسطين الداخل المُحتَل، يدرس الطلّاب تاريخًا غير تاريخهم، إذ لا وجود لتاريخ الشعب الفلسطينيّ في المناهج التعليميّة الرسميّة في المدارس العربيّة. ذلك أنّ وزارة التربية والتعليم في "إسرائيل" هي المسؤولة عن إقرار المنهاج الدراسيّ في هذه المدارس.

يدرس الطالب العربيّ الفلسطينيّ والطالب اليهوديّ في "إسرائيل"، تاريخ "الكارثة والبطولة ومآسي الشعب اليهوديّ"، إلى جانب تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ أوروبا. هناك مغالطات وتشويهات في سرد حرب 1948، والتي تُسمَّى في المنهاج بـ"حرب الاستقلال"، أي "استقلال دولة إسرائيل"، فيطمِس السردُ التاريخَ الفلسطينيّ، مقابل تمجيد التاريخ الصهيونيّ. لذلك، يتخرّج الطالب العربيّ من المدارس لا يعرف حقيقة ما جرى في تاريخ فلسطين.

هناك مجموعة قوانين خاصّة بالتعليم، صدرت عن الكنيست (برلمان "إسرائيل")، منها قانون التعليم الإلزاميّ سنة 1949، وقانون التعليم الرسميّ سنة 1953، وقانون تطوير المدارس سنة 1969. تسعى قوانين التعليم وأنظمته هذه إلى وضع الآليّة في يد الدولة، لتنظيم جهاز التعليم وتسييره، ونشر القيم المهمّة التي تؤمن بها الدولة وتعمّقها في مجتمعاتها. تخضع قوانين التعليم وأنظمته في "إسرائيل"، بصورة دائمة، إلى تغيّرات بما يتناسب والتحوّلات الجارية على أرض الواقع في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة فيها. من هنا، يسنّ الكنيست قوانين عنصريّة بحقّ الفلسطينيّين، مواطني دولة الاحتلال، ويصادَق عليها وتصبح شرعيّة ومُعتمَدة، كـ"قانون النكبة" لسنة 2011، والذي صادقت عليه الكنيست في آذار 2011. يخوِّل هذا القانون وزير الماليّة بتقليص التمويل الحكوميّ أو الدعم للمؤسّسة التي تقوم بنشاط يعارض تعريف دولة "إسرائيل" دولةً "يهوديّة وديمقراطيّة"، أو يحيي يوم استقلال الدولة أو يوم تأسيسها على أنّه يوم حزن وحداد.

 يدور الحديث هنا عن مؤسّسات المجتمع المدنيّ في الداخل المُحتَل، حيث يحيي الفلسطينيّون يوم استقلال "إسرائيل" الرسميّ، على أنّه ذكرى الحداد الوطنيّة، فينظّمون نشاطات تذكاريّة مختلفة، كمسيرة العودة السنويّة. يمسّ القانون حقّ الفلسطينيّين ويقيّد حريّتهم بالتعبير عن آرائهم، ويرسِّخ التمييز اللاحق بالمواطنين العرب، كما يمنع ذكر تاريخ النكبة في المدارس، إذ يعدّونه خطرًا على أمن "إسرائيل" وسمعتها. يردع ذلك المعلّم الفلسطينيّ عن التطرّق إلى هذا الحدث، حفاظًا على مصدر رزقه ومكان عمله الوحيد. في المقابل، يتطرّق معلّمون آخرون إلى الموضوع تطرّقًا لا منهجيًّا، عندما يتفوّق الحسّ الوطنيّ عندهم على ضرورة الحفاظ على العمل، لتعريف طلّابهم إلى تاريخ بلادهم.

واقع التعليم بعد الانتفاضة الثانية

 في منتصف تسعينيّات القرن الماضي، بعد اتفاقيّة أوسلو (1993)، وبداية الألفيّة الثانية، اندلعت الانتفاضة الثانية التي سمّيت أيضًا "هبّة أكتوبر"، أو "هبّة الأقصى". وهي سلسلة مظاهرات قام بها فلسطينيّو الداخل، استنفارًا لدخول أرئيل شارون، رئيس الوزارء حينها، إلى المسجد الأقصى. الأمر الذي أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية، والتي تعدّ من أهمّ الأحداث التاريخيّة لدى فلسطينيّ الداخل، حيث أثّرت كثيرًا في علاقتهم مع سلطة "إسرائيل" والمواطنين اليهود، وأحدثت تحوّلًا ملموسًا في مسألة الهويّة الفلسطينيّة والمواطنة.

زادت هذه الانتفاضة من أهمّيّة إدخال التاريخ الفلسطينيّ بشكل موسِّع في المدارس العربيّة، وفق مناهج غير رسميّة، تُدرَّس في حصص الإرشاد التربويّة، بمحاضرات خارجيّة يُقدِّمها طلّاب جامعيّون ومهنيّون منخرطون في جمعيّات حقوقيّة أو نسويّة أو تربويّة أو شبابيّة، مثل المؤسّسة العربيّة لحقوق الإنسان في مدينة الناصرة التي انضممتُ إلى فريقها سنة 1999، في فترة دراستي الجامعيّة. كانت هذه المؤسّسة تعطي منحة للطلّاب الفلسطينيّين مقابل تدريبهم، وتهيئتهم لتقديم محاضرات في المدارس العربيّة عن الأقليّة الفلسطينيّة. تمحورت الموضوعات حول قضيّة اللاجئين وحقّ العودة، والقرى المهجَّرة والمدمَّرة، ومصادرة الأراضي، وتهويد الجليل والنقب، وموضوعات أخرى.

تفاعل الطلّاب مع هذا البرنامج إيجابيًّا، إذ أظهروا تعطّشهم إلى معرفة المزيد، والشغف بمعرفة تاريخهم المخفيّ عنهم كما أوضحوا. بالطبع، هناك طلّاب مسيّسون أتوا من بيوت مُسيَّسة وحزبيّة، وتلقّوا التربية الوطنيّة من أهاليهم أو نواديهم الحزبيّة، وهناك شريحة أخرى من الطلّاب كانت تسمع عن هذه الموضوعات للمرّة الأولى.

 

إنتاج التاريخ المحكيّ واستراتيجيّات تعليمه

 يجب أن يكون المعلّم مبادرًا ومجدِّدًا ومبتكِرًا في جميع المواد التعليميّة، ولا سيّما التاريخ، إذ عليه الاجتهاد في الصفّ، وتوجيه الطلّاب وحثّهم على إنتاج المعرفة التاريخيّة لفلسطين، كي يكون الطالب شريكًا فعّالًا في عمليّة التعلّم. يوسِّع البحث آفاق الطالب الذي من حقّه أن يعرف تاريخ بلاده الحقيقيّ، ويعزِّز حسّ انتمائه إلى مجتمعه وشعبه.

من هنا، ينبغي أن يكسر المعلّم روتين جلوس الطلّاب في الصفّ. فيجلسهم في مجموعات صغيرة بشكل دائريّ. ومن الضروريّ بناء علاقة وثيقة بين المعلّم والطالب، وتهيئة بيئة تعليميّة غير تقليديّة، وفحص جهوزيّة الطلّاب بخوض تجربة "كتابة التاريخ"، فليس جميعهم يملكون المهارات الكتابيّة ذاتها، أو الرغبة في التواصل مع الناس. لذلك، على المعلّم أن يفحص قدرات الطلّاب، ويوزِّع المهمّات على فريق العمل بحسب رغبة كلّ فرد منهم، وأن ينقل مادّة التاريخ من جفافها، ليُقبِل الطلّاب على دراستها بشغف المعرفة والإنتاج.

على سبيل المثال، إذا أخذنا تعليم مادّة التاريخ في فلسطين المُحتَلة سنة 1948، عندما كان يُتعامَل مع موضوع النكبة، في المنهاج الرسميّ، على أنّها "حرب الاستقلال"، يمكن للمعلّم أن يطرح الموضوع للنقاش، من أجل تقييم هذه المعلومات وتشجيع الطلّاب، بتوجيه منهجيّ، على البحث عن مصداقيّة المكتوب، ومساعدتهم على التوصّل إلى حقيقة أخرى، فمن المعلوم في التاريخ أنّه لا توجد حقيقة واحدة مُطلَقة. لذلك، يجب الاهتمام بنمط جديد في البحث من أسفل إلى أعلى، عكس التاريخ التقليديّ، أي البدء من السرديّة الصغيرة للوصول إلى السرديّة الكبرى.

من خلال التاريخ المحكيّ، يستطيع الطالب التواصل مع محيطه لجلب معلومات حول النكبة، أو حول موضوع الانتفاضة الثانية. بالإضافة إلى ذلك، يستطيع كتابة تاريخ سيرة الجدّ، أو شخصيّة ملهِمة في العائلة، أو أصدقاء العائلة، أو تاريخ نشأة الحيّ الذي يسكنه، أو شوارع في بلده، أو ساحات، أو عمارات، أو معالم أثريّة أخرى. أؤمن أنّ الجميع يستطيعون كتابة التاريخ، وأن يكونوا مؤرّخين، حتّى الأطفال في الصفوف الابتدائيّة. يمكن للمعلّم تهيئة الطفل ليكون باحثًا ميدانيًّا، ولتحقيق ذلك يتوجّب القيام بالمهمّات الآتية:

  1. -اختيار الموضوع الذي يبحثه الطالب، بمنح خلفيّة تاريخيّة وعلميّة حوله، وإرشاده إلى المواد الأرشيفيّة والأدبيّات والمصادر، لتكوين خلفيّة معرفيّة عن الموضوع. وذلك من أجل تمكينه من إجراء المقابلة وبناء الأسئلة.
  2. -إعداد الباحثين الميدانيّين وتدريبهم. والحديث هنا عن طلّاب المرحلة الابتدائيّة الأولى ذوي السبع سنوات.
  3. -وضع الأسئلة وموضوعات البحث التي استنبطها الطلّاب، للمساعدة في تنظيم الرواية.
  4. -اختيار الرواة. وفي هذه الحالة تكون العائلة ومحيط الطالب وأبناء بلده.
  5. -بناء طواقم عمل بمرافقته المهنيّة.
  6. -الانتقال الى الحقل الميدانيّ وجمع الروايات وتسجيلها.
  7. -معالجة الروايات واختبارها.

 

تركّز أهداف هذا النهج في التعليم على اهتمام الطالب بالمعرفة التاريخيّة وإنتاجها، حيث يخلق هذا النهج الثقة عند الطالب، ويعزّز لديه الشعور بالقدرة على خلق/ إنتاج معرفة تاريخيّة جديدة قريبة من مُحيطه. عندما يكون الطالب مسهمًا وشريكًا فعّالًا، تتعزّز فيه الوجدانيّة الاجتماعيّة والوطنيّة، والتي لها أكبر الأثر في تربيته الوطنيّة وإعداده المستقبليّ. بهذا يكون مسهمًا في استمراريّة الحفاظ على ذاكرة شعبه الفلسطينيّ وإرثه، والذي تستمرّ دولة الاحتلال، منذ قيامها حتّى يومنا، في محاولات تدميره بشتّى الأساليب، وطمس التاريخ الفلسطينيّ وهويّة المكان.  

 

المراجع

- غنايم، روضة. (2022). حيفا في الذاكرة الشفويّة: أحياء وبيوت وناس. المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

- مجموعة مؤلّفين. (2015). التاريخ الشفويّ: مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات. المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

- مجموعة مؤلّفين. (2015). التاريخ الشفويّ: مقاربات في الحقل السياسيّ العربيّ: فلسطين والحركات الاجتماعيّة. المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

- يحيى، عادل. (2002). بين انتفاضتين: التاريخ الشفويّ الفلسطينيّ- دليل الباحثين والمعلّمين والطلبة. المؤسسة الفلسطينيّة للتبادل الثقاقيّ.

- يحيى، عادل وأخرون. (1994). من يصنع التاريخ؟ التاريخ الشفويّ للانتفاضة- دليل الباحثين والمعلّمين والطلبة. مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ.