مع بدء العدوان على غزّة منذ عامين كاملين، عانت مؤسّسات التعليم في قطاع غزّة شللًا شبه كامل؛ فالحرب المستمرّة أخرجت مئات آلاف الطلّاب من نطاق التعليم، ودمّرت المدارس والمرافق التعليميّة بشكل ممنهج بعد تعرّض جميع المدارس إلى هجمات وحشيّة متعمّدة. أدّى ذلك إلى توقّف العمليّة التعليميّة، وتعطيل حياة آلاف الأسر التي تعتمد على التعليم مصدرَ أمل لمستقبل أبنائها. وفي ظلّ هذه الظروف القاسية، يعيشُ الطلّاب الفلسطينيّون في غزّة واقعًا مريرًا يعكس أزمة إنسانيّة وتعليميّة غير مسبوقة، خصوصًا في ظلّ استمرار حرب الإبادة الجماعيّة التي تستمرّ قوّات الاحتلال الإسرائيليّ في شنّها على قطاع غزّة، منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.
الحرب والمتعلّمون الصغار
انقطع الأطفال في المرحلة الابتدائيّة عن التعليم انقطاعًا تامًّا، بسبب الدمار المستمرّ للمدارس، وظروف الحرب القاسية. هؤلاء الأطفال، والذين من المفترض أن تكون سنواتهم الأولى في المدرسة مليئة بالتعلّم والاستكشاف، يعيشون اليوم في خوف دائم من القصف والدمار؛ ما يحوّل حلمهم البسيط بالذهاب إلى المدرسة، إلى تحدٍّ يوميّ للبقاء على قيد الحياة. جاء غياب المتعلّمين بشكل كامل عن الدوام المدرسيّ، نتيجةً حتميّة لتدمير الاحتلال مدارسَ القطاع قصفًا ونسفًا وحرقًا، ولنقص في الكوادر التعليميّة والموادّ الدراسيّة، وإخراج مئات آلاف الطلّاب من منظومة التعليم.
توقّف الطفل في غزّة عن ممارسة التعلّم، وخصوصًا مهارات القراءة والكتابة، يُعدُّ من أخطر التحدّيات التي قد تواجه نموّه العقليّ والمعرفيّ. فالقراءة والكتابة ليستا مجرّد أداتين للتعلّم، بل هما البوابة الأساسيّة لاكتساب المعرفة وتنمية التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى المتعلّمين. ومن المؤكّد أنّه حين ينقطع الطفل عن الممارسة اليوميّة لهذه المهارات، تبدأ قدراته اللغويّة بالتراجع تدريجيًّا، فيفقد سرعة القراءة وفهم النصوص، ويضعف قاموسه اللغويّ وقدرته على التعبير عن أفكاره بوضوح. كما إنّ التوقّف عن الكتابة يؤثّر سلبًا في مهارات التنظيم الذهنيّ، والتعبير المنطقيّ، وتوظيف المفردات بشكل صحيح. ومع مرور الوقت، قد يؤدّي هذا الانقطاع إلى ضعف التحصيل الدراسيّ وفقدان الدافعيّة إلى التعلّم، إضافة إلى شعور الطفل بالإحباط، وانخفاض ثقته بنفسه مقارنة بأقرانه. من هنا، تُعتبَر الاستمراريّة في ممارسة القراءة والكتابة، ضرورة ملحّة لحماية الطفل في مرحلة التأسيس المهمّة والحسّاسة، من فجوة تعليميّة يصعب تعويضها لاحقًا.
وعلى الرغم من كلّ ذلك، يظلّ في نفوس هؤلاء الأطفال وعائلاتهم أملٌ كبيرٌ في مستقبل أفضل، يطمحون فيه إلى التعليم وسيلةً للخروج من دائرة الحرب والدمار. ما يزال أطفال غزّة يحلمون بأن ينهضوا بأنفسهم، ويتمكّنوا من القراءة والكتابة كأصدقائهم الذين كان حظّهم أفضل في المرحلة التأسيسيّة ما قبل الحرب. ويحلمون بالمشاركة في بناء مستقبل يليق بكرامتهم وإنسانيّتهم ويحقّق طموحاتهم، ويحفظ توازنهم العقليّ والنفسيّ والحياتيّ.
ضباب الطريق نحو المستقبل
أمّا المتعلّمون اليافعون في غزّة، فتبدو أوضاعهم التعليميّة أكثر تعقيدًا بعد انقطاع دام لعامين متواصلين. كان يُفترَض بهذه المرحلة الحسّاسة أن تشكّل قاعدة صلبة لبناء جيل واعٍ ومثقّف، لكنّ الحرب قلبت المعادلة؛ فحُرم هذا الجيل من حقّه في التعلّم، واضطرّ كثير منهم إلى البحث عن عمل يعيل أسرهم وسط ظروف حياتيّة قاسية ومعقّدة. تجدُ أطفالًا ما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يبيعون الطعام، أو يجمعون الحطب، أو يتجوّلون بين خيام النزوح وعلى الأرصفة كباعةٍ صغار، يلهثون وراء لقمة العيش بدل مقاعد الدراسة. أمّا المدارس القليلة التي ما زالت قائمة – لا تتجاوز 10% من مدارس القطاع – فهي إمّا ملاجئ مكتظّة، أو مؤسّسات تعاني نقصًا شديدًا في الموارد وضعفًا في انتظام الدوام، ما يفاقم تراجع المستوى التعليميّ.
في ظلّ هذا الواقع، يفقد معظم اليافعين حافزهم ودافعهم إلى مواصلة الدراسة، ويغدو المستقبل التعليميّ لهذه الفئة أكثر ضبابيّة من أيّ وقت مضى. ومع ذلك كلّه، ما زالت هناك آمال متجدّدة في قلوب بعض الطلّاب وأسرهم: يأملون في تجاوز هذه الأزمة وتحقيق حلم استكمال الدراسة، وصولًا إلى الحياة الجامعيّة والحصول على فرص عمل تضمن لهم حياة كريمة. ويعوّلُ المجتمع الفلسطينيّ كثيرًا على هؤلاء اليافعين ليكونوا رافعة للمستقبل، لكنّ تلك الآمال تبقى مهدّدة بشدّة.
وتكمن خطورة أوضاع المتعلّمين اليافعين في أن يتحوّل هذا الجيل إلى جيل ضائع بلا تعليم ولا مهارات، ما ينعكس سلبًا على المجتمع بأسره، ويزيد من دوامة الفقر والبطالة والعنف المستمرّ. ويزيد الأمر خطورة انعدام التوجّه إلى التعليم جزءًا من ثقافة الشعب الفلسطينيّ وهويّتهِ في غزّة، والذي ظلّ محافظًا على هويّته وثقافته من خلال ركيزة التعليم أساسًا لمستقبله ومستقبل أبنائه.
أمّا طلّاب الثانويّة العامّة في غزّة، فيعيشون أسوأ مراحل حياتهم التعليميّة، حيث الضياع والقلق اللذان يسيطران على حياتهم؛ فالمستقبل مجهول في وقت حرجٍ جدًّا بالنسبة إليهم. ظروفهم التعليميّة مثل ظروف كلّ المتعلّمين في القطاع: توقّف شبه كامل للمدارس، وغياب البنية التحتيّة التعليميّة، وتدمير المرافق، بالإضافة إلى نقص الكوادر التعليميّة المؤهّلة، وتوقّف نظام التعليم الرسميّ عن العمل. بات الطلّاب في هذه المرحلة الحاسمة من حياتهم يفقدون فرص التقدّم العلميّ والمهنيّ، ويواجهون تحدّيات كبيرة في الاستعداد للامتحانات النهائيّة، والتي عُقدت إلكترونيًّا للمرّة الأولى لطلبة الثانويّة العامّة في غزّة بعد عامين كاملين من الضياع والتيه، من دون اعتراف رسميّ بشهاداتهم ونتائجهم، حتّى اللحظة، من قبل الدول المجاورة بما يسمح لهم باستئناف دراستهم الجامعيّة.
حجم الإبادة التعليميّة
ومع انعدام فرص العمل داخل القطاع، وعدم وجود جامعات أو مؤسّسات تعليميّة معترف بها دوليًّا داخل غزّة بسبب الحصار، يصبح مستقبل هؤلاء الطلّاب في خطر كبير. شهاداتهم قد لا يُعترف بها خارج القطاع، ما يحرمهم من فرص الدراسة في الخارج، أو الوظائف المرموقة. ينتج عن ذلك تعطّل أجيال كاملة عن التعليم والعمل، وارتفاع معدّلات الفقر والبطالة، وما ينتج عنهما. ويزداد الأمر تعقيدًا بضبابيّة المستقبل المجهول لهؤلاء، إذ لا حلول تلوح في الأفق لظروف استكمال تعليمهم، سواءً داخل القطاع أو خارجه.
وكانت وزارة التربية والتعليم في فلسطين، قد أعلنت مع بداية استعداد العالم لافتتاح عام دراسيّ جديد، عن أحدث إحصائيّة صادمة لحجم الأضرار التي لحقت بقطاع التعليم، في غزّة والضفّة الغربيّة، منذ بدء العدوان الإسرائيليّ في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023:
استُشهد 18,489 طالبًا وأصيب 28,854 آخرون بجروح، من بينهم أكثر من 18,346 شهيدًا و27,884 جريحًا في غزة وحدها. بينما بلغ عدد الشهداء من الطلبة في الضفّة 143، والإصابات 970، إضافة إلى اعتقال 740 طالبًا. ولم تتوقّف الخسائر عند الطلبة، بل طالت الكوادر التعليميّة أيضًا، إذ استُشهد 970 معلّمًا وإداريًّا، وأصيب 4,533 بجروح، كما اعتُقل أكثر من 199 منهم في الضفّة.
وعلى صعيد البنية التحتيّة، دُمّرت 160 مدرسة حكوميّة بالكامل في قطاع غزّة، وتعرّض 63 مبنى جامعيًّا إلى الدمار، إضافة إلى القصف والتخريب لـ118 مدرسة حكوميّة و93 مدرسة تابعة لوكالة "الأونروا"، ما أدّى إلى إزالة 25 مدرسة بطلبتها ومعلّميها من السجلّ التعليميّ نهائيًّا، في مشهد يعكس حجم الكارثة التي يعيشها التعليم الفلسطينيّ تحت وطأة الحرب والإبادة التعليميّة.
***
يمكن القول إنّ التعليم في قطاع غزّة يتعرّض إلى اعتداء ممنهج ومبرمج في ظلّ الإبادة الجماعيّة المستمرّة، ما يجعل من حياة الطلّاب الفلسطينيّين مأساة حقيقيّة. من المرحلة الابتدائيّة مرورًا بالإعداديّة وحتّى الثانويّة، يعيشُ هؤلاء الطلّاب ظروفًا لا إنسانيّة، بين دمار المدارس، وانقطاع التعليم، وضياع الأحلام. آمالهم وطموحاتهم تتلاشى تدريجيًّا أمام واقع قاسٍ يفرضه الاحتلال والحصار، بينما تحاول أسرهم والمجتمع بأسره أن يجدوا بصيص أمل في ظلمات الحرب من أجلهم.
مستقبل غزّة وأجيالها القادمة يبدو اليوم أكثر ضبابيّة من أيّ وقت مضى، لا سيّما تلاشي فرص التعليم والكرامة والحرّيّة في ظلّ هذا الظلم المستمرّ. يبقى السؤال: إلى متى سيُسمح لهذه الأحلام أن تُدفن تحت أنقاض الحصار والدمار؟