كامبريدج، بريطانيا: أطلقت مجلّة منهجيّات بالتعاون مع مركز الدراسات اللبنانيّة كتابًا جديدًا بعنوان "التعليم في زمن الحرب: فِعلُ حياة"، وذلك أمس الخميس، ضمن فعاليّات مؤتمر "سياسات المعرفة والسلطة والنضال من أجل مستقبل أكاديميّ"، الذي استضافته جامعة كامبريدج.
وعُقدت جلسة الإطلاق بمشاركة تربويّات وتربويّين من غزّة، ممن ساهموا في توثيق تجاربهم في التعليم خلال العدوان الإسرائيليّ، من خلال نصوص وشهادات نُشرت تباعًا في مدوّنة غزّة التابعة لمجلّة منهجيّات، تحت شعار "أيّ شيء إلّا الصمت"، ثم جُمعت هذه النصوص مع ترجمات مختارة من ملفّ العدد السادس عشر من المجلة في هذا الكتاب.
وسلّطت الجلسة الضوء على الجهد المبذول لتحويل هذه الشهادات من "أدبيّات رماديّة" إلى أدبيّات سائدة، تُدرج في المسارات الأكاديميّة والبحثيّة، بما يُعزّز الاعتراف بدور المعلّمات والمعلّمين في إنتاج المعرفة التربويّة، حتى في أقسى ظروف الحرب والاحتلال.
وشارك في الجلسة كلّ من الأستاذة سامية بشارة، المديرة التنفيذيّة لترشيد وعضوة الهيئة التأسيسيّة لمنهجيّات، والدكتورة مها شعيب، مديرة مركز الدراسات اللبنانيّة في كامبريدج، بالإضافة إلى الأساتذة منار الزريعي وأسماء مصطفى ومحمّد شبير، وهم تربويّون وكتّاب من غزّة شاركوا عبر الإنترنت. وأدارت الجلسة الدكتورة رباب تمش.
وقالت أ. بشارة في مداخلتها: "لقد بدأت هذه الرّحلة مع عددٍ خاصٍّ من مجلّة منهجيّات، خصّص كاملًا لاستكشاف الكيفيّة التي يستمرّ بها التعلّم في ظلّ الحروب والنّزوح وحالات اللّايقين العميقة. ألهم هذا العدد حواراتٍ وتأمّلاتٍ، وسلّط الضّوء على التزامنا الجماعيّ بفهم الدّور الجوهريّ للتعليم في أزمنة الحرب. واليوم، تتوّج هذه الرّحلة بهذا الكتاب، تكريمًا دائمًا لتلك الجهود، وللحكايات التي يجب ألّا تنسى".
وأضافت: "هذا العمل ما كان ليتحقّق لولا الدعم الهائل، والثقة، والتفاني من شركائنا. إلى كلٍّ منكم، نقول: شكرًا. إنّ إيمانكم بأهمّيّة هذا المشروع، وتعاونكم المثابر، والتزامكم الذي لا يلين، هو ما جعل هذا الحلم حقيقة. لقد خلقنا سويًّا شيئًا نأمل أن يلهم، ويعمّق الوعي، ويحرّك الفعل لسنواتٍ قادمة".
واختتمت المداخلة بقولها إنّ: "التعليم في زمن الحرب: فعل حياة ليس مجرّد كتاب، إنّه إعلان أنّ التعليم ليس ترفًا، بل شريان حياة. لا يتوقّف عندما ينهار العالم من حولنا. بل يستمرّ، لأنّ الأمل يستمرّ. من خلال هذه الصفحات، نكرّم المعلّمات والمعلّمين، والطّلّاب، والمجتمعات التي أظهرت لنا المعنى الحقيقيّ للشّجاعة، والصّمود، والإنسانيّة".
وأمّا د. شعيب فأوضحت في مداخلتها: "يجمع أصوات المعلّمين والمعلّمات في فلسطين المُحتلّة، في غزّة المحاصرة والمُستهدفة بالإبادة، في الضفّة الغربيّة الواقعة تحت الاحتلال، وفي لبنان الذي يتعرّض إلى هجمات متواصلة. هؤلاء المُعلّمون الذين علّموا وواسَوا وقاوموا أمام وجهٍ من أوجه الاحتلال الأكثر وحشيّة في عصرنا. كلماتهم، الصادقة القاطعة، تخترق الخطاب الملوّن المُعقّم لحقل "التعليم في أوقات الأزمات والنزاع". وهو حقلٌ لطالما جرت مناقشته في أروقة أكاديميّة مغلقة، وغرف اجتماعات معقّمة في منظّمات دوليّة، بعيدة عن أصوات الانفجارات ورائحة الدم. يسعى هذا الكتاب لمساءلة "الأرثوذكسيّات" المُهيمنة في الحقل الأكاديميّ، والتي تبنّى معظمها، منطق الهيئات المانحة المُهيمِن ومؤسّساتها التي أنشأت هذا الحقل وتُواصل الاستفادة منه، من دون مساءلة الجذور الأنطولوجيّة والإبستيمولوجيّة التي تكرّس هذا التسلّط".
وأضافت: "ما الذي يصير إليه التعليم، حين تتحوّل المدارس إلى مقابر جماعيّة، وحين لا يبقى من الصفوف الدراسيّة سوى شظايا بين الركام؟ عندما يُرغم المعلّمون على أن يكونوا أكثر من مجرّد ميسّرين للتعلّم: حماةً من اليأس، ومهندسين للأمل في عالمٍ يسعى لمحوهم؟
هذا الكتاب شهادة، ورفضٌ للصمت".
وقدّمت أ. مصطفى مداخلة حول تدوينتها "في مدرسة الحرب على غزّة"، وهي شهادة مؤثّرة تصف كيف تحوّلت الحرب إلى مدرسة قسرية يعيش فيها أكثر من مليوني فلسطينيّ، تجربة تعليميّة لا تُعلَّم في الكتب أو الصفوف. بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، توقّفت الدراسة التقليديّة، وبدأت مرحلة تعلّم جديدة قوامها الألم والخبرة والنجاة.
ترصد التدوينة كيف تعلّم أهل غزة، كبارًا وصغارًا، مهارات الحياة من تحت القصف، في مراكز الإيواء، ومن مشاهد الدمار والفقد. فالأطفال باتوا خبراء في التحليل السياسي، والناس صاروا يتقنون التخطيط البديل للحياة، ويجيدون التحمّل والتكيّف مع أقسى الظروف. تعلّموا الصبر، التأدّب في حضرة الموت، وفضيلة مواساة الآخرين، في وقت يفتك القصف فيه بكل مقومات الحياة.
وأمّا أ. الزريعي فداخلت حول تدوينتها "كيف يبلغوننا أنّهم بخير هذه المرّة؟"، وهي شهادة شخصيّة، تستعرض فيها الفارق المؤلم بين العدوان الحالي على القطاع والحروب السابقة، لا سيّما في غياب القدرة على التواصل مع الأهل والطلّاب بسبب الانقطاع الكامل للكهرباء والاتّصالات.
في حروب سابقة، وعلى الرغم من القصف والخطر، استطاع المعلّمون تنظيم أنشطة نفسيّة واجتماعيّة لمساعدة الطلّاب على تجاوز الصدمة، مثل مبادرة "أبلغني أنّك بخير"، وتنشيط البرلمان الطلّابي، ومشاركة نصائح ودعم نفسي عبر الإنترنت. وقد تفاعل معها الطلّاب برسائل ورسومات ومقترحات عبّرت عن حاجاتهم ومخاوفهم.
أمّا في العدوان الأخير، فالكاتبة تشهد على عجز غير مسبوق؛ فلا اتصال ولا وسيلة للاطمئنان على سلامة من تحبّ، ما يزيد من وطأة الشعور بالفقد والعجز. ومع ذلك، تستدعي الكاتبة من ذاكرتها تلك اللحظات التي استطاعت فيها، برفقة زميلاتها، أن تزرع معنى للوجود وللتعليم في قلب الحرب، مؤكّدة أن تلك التجارب كانت مصدرًا للأمل والصمود، في وقتٍ كان العالم فيه غائبًا.
وداخل أ. شبير حول مقاله "مصطلحات جديدة تقتحم قاموس الطلبة الفلسطينيّين في ظلّ العدوان الإسرائيليّ"، والذي يوضّح فيهِ كيف شكّلت المفاهيم والمصطلحات التي خلّفتها الحرب الأخيرة على غزّة تعلّمًا جديدًا للطلبة الفلسطينيّين خارج السياق المدرسيّ، وبات من الضروريّ عليهم التعاطي معها وتوظيفها عمليًّا في السياقات الحياتيّة، مدركين أهمّيّة توظيفها في ممارساتهم اليوميّة. فهي حالة تعلّم جديدة قادتهم إلى حالة من الفعل والحراك اليوميّ مع هذه المصطلحات، لتشكّل حالة من الفاعليّة الإيجابيّة لاستثمار المحنة في زمن الحرب. وبمعنى آخر، حدَّ توقّف العمليّة التعليميّة في غزّة من تلقّي الطلّاب المعلومات والمعارف بإطارها الرسميّ، إلّا أنّ ممارسات الحرب بصورها المختلفة أحدثت تعلّمًا جديدًا بصورة غير نظاميّة، لكنّه تعلّم من الحياة وللحياة في زمن الحرب.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب يمثّل ثمرة تعاون بين مركز الدراسات اللبنانيّة ومجلّة منهجيّات. ويهدف إلى إبراز أصوات المعلّمين الذين يُعلّمون الأطفال في ظلّ حرب إبادة متوحّشة. وقد أَعدّت منهجيّات هذه المجموعة من المقالات باللغة العربيّة، ضمن ملفّ عددها السادس عشر بعنوان "التعليم في زمن الحرب". كما يتضمّن الكِتاب مجموعة تدوينات من "مدوّنة غزّة"، وهي، كذلك، منصّة أطلقتها منهجيّات مع بدايات الحرب على غزّة على موقعها الإلكترونيّ، لتجمع شهادات مؤثّرة وتأمّلات نقديّة من تربويّين يواجهون واقع الحرب والتهجير في فلسطين ولبنان.
وحظي المشروع بدعم من بروكول لبنان، وجامعة كوليدج لندن (UCL)، ومركز البحث من أجل الوصول العادل إلى التعليم في كامبريدج (REAL Center).