إبادة الحقّ في التعليم وتغيّر المفاهيم
إبادة الحقّ في التعليم وتغيّر المفاهيم
2024/04/02
سائدة عفونة | مساعدة رئيس الجامعة للرقمنة والتعلّم الالكتروني وعميدة كلية التربية في جامعة النجاح الوطنية- فلسطين

عُقِدَت اتفاقيّة أوسلو بناء على قرارات دوليّة، ومفاوضات رسميّة، وآمال شعبيّة، ومعارضة فكريّة، ودعم دوليّ لقطاع التعليم الذي عانى لعشرات السنين انتهاكًا، وتقييدًا، ومنعًا للتطوير. كان لي حظّ العمل في وزارة التربية والتعليم في البدايات في مجال البحث، والتطوير والتخطيط، وكانت مرجعيّتي في كلّ ما أقوم به حقوقَ الإنسان، والتي أُشبعت تدريبًا عليها، من ورش وندوات ومؤتمرات، إلى درجة أنّني اقتنعت أنّها صالحة لكلّ زمان ومكان، وأنّها مرجعيّة للحقّ والعدالة والنزاهة لكلّ إنسان.

مرّت الأيام، وصحونا من لهفة التغيير، وفرحة الاتفاقيّة، وتبيّن أنّ كلّ ما كان حبرٌ على ورق؛ فلا اتّفاقيّات تنفع، ولا حقّ في التعليم، وإن وجد فلا ضامن له. فالاتفاقيّات الدوليّة تضمن بناء مدارس، وإضافة غرف صفّيّة، وتجهيز مختبرات، لكنّها لا تضمن عدم هدمها، ولا توقف اختراقها، وإحاطتها بالأسوار، والجدران، ونقاط التفتيش، وتعرّض الطلبة والمعلّمين للتوقيف في أقلّ الأحوال، ولربّما للاعتقال والتنكيل، في كلّ يوم وهم في طريقهم، من وإلى العديد من المدارس.

 

ما بين محاولات عديدة لضمان استمرار التعليم في فلسطين، أثناء سنين طويلة من الاحتلال، وبين محاولة ضمان نوعيّة التعليم المقدّم، وبين إيمان الأهل، وعطاء المعلم، وبطش المحتلّ، وصعوبة الأوضاع السياسيّة، وإضراب المعلّمين، وتفشّي الجائحة، وتراجع الأوضاع الاقتصاديّة، ووجود مشاريع دوليّة متناثرة بأهدافها من هنا وهناك، أصبح التعليم في مهبّ الريح، وتراجعت نوعيّته، وزادت الخصخصة بحثًا عن جودة لم تعد موجودة في المدارس العامّة. زاد الفاقد التعليميّ، وارتفعت نسبة فقر التعليم، إلى درجة أصبح فيها التعويض شبه مستحيل. ولكن هيهات هيهات، لم تتوقّف الحكاية هنا، فسنوات من العدوان المتواصل على التعليم أوصلتنا إلى التساؤل: هل أُبيد التعليم في فلسطين بدم بارد؟ أم أنّ الحقّ في التعليم لا يزال يتنفّس آخر جرعة من الهواء، اخترقت ثقبًا في سماء غزّة، لتبثّ أملًا جديدًا لمشهد في خيمة لمعلّم، لا يستطيع إلّا أن يستمرّ بالتعليم: يجمع الأطفال حوله كلّ صباح، يعلّمهم القراءة والكتابة، وأهمّ من ذلك الصمود، ويفتح بيده المهتزّة نافذة جديدة لأمل جديد، على الرغم من احتماليّة استشهاده خلال تأديته درسَه.

لم يهتمّ هذا المعلّم بأنّ الحقّ بالتعليم مكتوب في صفحة ما، في مكان ما، ومنشورة عبر صفحة ما. ولكنّه يعلم أنّ عليه ضمانه بعد أن أُهدر، وأنّ عليه تأمينه بعد أن أُبيد بهدم المدارس، وقتل الآلاف من المتعلّمين والمعلّمين. هنا أيقن هذا المعلّم أنّ الحقّ بالتعليم نصنعه بأيدينا، بعد أن شُكّك بمفهوم الإنسان، في عالم يميّز بين إنسان وإنسان، ويدعو للعدالة والمساواة في إطار نظريّ قانونيّ جامد، ويمارس الظلم والتمييز في وضح النهار، وتحت إشعاع شمس تبكي على الصاعدين للسماء كلّ نهار، تخشى عليهم من اقترابهم منها، فلا تريد حرق أرواحهم بعد أن حُرقت أشلاؤهم، فتغرب مسرعة خائفة عليهم، ومتستّرة بقمر أمل جديد، يعود بغد أفضل وعلم أنفع.

 

معلّم وطالب، يعيشان معًا في خيمة الصمود، يبحثان عن لحظة سلام بين ركام الحرب والعدوان. يتناقلان الأخبار عن هدنة قد تأتي هذا المساء، ويقتنصان فرصة لتعلّم كتابة كلمات سلام، وأمل وتفاؤل، وصمود وحياة. لكن، تداهمهما أحرف كلمات الموت والفقدان، والتهجير، والتجويع، ويبدآن بالغناء معًا أغنية الحياة، رافضَين سماع صوت الموت، بعد أن خجل الموت من إصرارهما على الحياة.

أتساءل، بعيدًا عن الفلسفة، ما مفهوم المعلّم والمتعلّم؟ والمدرسة والكتاب؟ بعد أن أحرقت الكتب لأجل التدفئة، وتمازجت سلطة المعلّم مع المتعلّم، وتعايشًا في حرمان مشترك، وبنيا أملًا جديدًا، معًا في مدرسة الإيواء، والتي أصبحت غرفها مكان نوم وتعلّم، وألم وحبّ، وعطاء وفقدان، واختلطت جميع المشاعر، وتجسّدت في مكان واحد، مع أنشودة الصباح التي أطلقاها، يقولان باقون هنا كشجر اللوز والزيتون. 

 

وممّا لا يحتمل الشكّ أنّ أصحاب الحقّ سيواصلون نضالهم لبناء منظومة جديدة لمفهوم حقوق الإنسان، بعد أن صعدت جموع الأرواح للسماء، لتظلّل ليس فقط فلسطين، وإنّما الفضاء العالميّ الذي يؤمن بقلبه بحقّ الحقّ، ويخجل من إبادة التعليم بعد أن إبادة الإنسان، والحيوان، والمكان، ومحاولة إبادة الزمان. منظومة صمود جديدة، تستحقّ التوثيق والرواية، لجيل جديد شاهد على جريمة ارتكبت بحقّ القانون الدوليّ، وحقوق الإنسان، قبل أن تكون بحقّ الفلسطينيّ. فهذه أمّ، نازحة، تختار حمل حقيبة المدرسة معها عند تهجيرها من بيتها، لا تتوقّف عن التعلّم، حتّى تحت صوت القصف واقتراب الموت.. كلّ، يوم بدايةُ حكاية جديدة، لفرصة جديدة، لمولود يصرخ صرخة الحياة، بعد أن أبيد الحقّ بالحياة.