تُعرف المرحلة الممتدّة من الولادة وحتّى سنّ السادسة غالبًا بـ "السنوات التأسيسيّة"، وليس في هذا الوصف مبالغة، بل هو علامة على أهمّيّتها الفريدة. ففي هذه السنوات تتسارع وتيرة نموّ دماغ الطفل على نحو مدهش، مُشكّلة شبكات عصبيّة معقّدة ترسم ملامح تفكيره، وتُحدّد سلوكيّاته، وتصقل تفاعله مع العالم من حوله. يمكننا أن نطلق على هذه السنوات الفترة الذهبيّة؛ فهي الوقت المثاليّ الذي يُمكن فيه غرس بذور العادات الإيجابيّة التي ستنمو لتُشكّل شخصيّته، وتُرسي دعائم قيمه، وتمهّد طريقه نحو حياة مزدهرة.
فالطفل في هذه المرحلة أرض خصبة تستجيب سريعًا لما يُزرع فيها، والعادات التي يكتسبها الآن تميل إلى الثبات والرسوخ مع مرور الوقت. لذا، فإنّ ما يُقدّمه الوالدان من توجيه وتربية في هذه السنوات ليس مجرّد تأثير عابر، بل استثمار طويل الأمد، يُثمر في تحصيله الدراسيّ، وفي قدرته على بناء علاقات صحّيّة، وفي مواجهته لتحدّيات الحياة. وفي السطور الآتية، نسلّط الضوء على أبرز العادات التي يجدر بكلّ أب وأمّ ومربٍّ أن يُنمّيها في نفس طفله منذ نعومة أظفاره.
أهمّ العادات التي يجب تعليمها للطفل في السنوات الأولى
الاحترام واللطف
يُعدّ تعليم الأطفال احترام الآخرين والتعامل بلطف معهم، من القيم الأساسيّة التي تُسهم في تطوير مهاراتهم الاجتماعيّة في وقت مبكّر. ويبدأ هذا التعلّم من خلال الملاحظة، فالطفل يتأثّر بسلوك من حوله، ويتعلّم كيف يتعامل مع الآخرين برؤية والديه ومقدّمي الرعاية وهم يتحدّثون بلطف، ويتشاركون، ويُظهرون تفهّمهم للغير.
طرق تعزيز هذه العادة:
- شجّع استخدام العبارات المهذّبة مثل "من فضلك"، و"شكرًا"، و"عذرًا"، واجعلها جزءًا من الحديث اليوميّ.
- قدّر التصرّفات الإيجابيّة، كأن يساعد الطفل أحد أفراد الأسرة، أو يُظهر تعاطفه في موقف ما.
- علّمه أن يُعبّر عن مشاعره بطريقة محترمة، وأن يستمع للآخرين من دون أن يُقاطعهم أو يسيء إليهم.
- اقرأ له كتبًا تتناول موضوعات عن التعاون واللطف، وناقش معه تصرّفات الشخصيّات وما يمكن تعلّمه منها.
بناء هذه العادة يحتاج إلى توجيه مستمرّ، ومواقف واقعيّة يتعلّم منها الطفل بالتجربة والملاحظة.
النظافة الشخصيّة
لا تقتصر أهمّيّة النظافة على الحفاظ على الصحّة البدنيّة، بل تمتدّ إلى تعلّم الطفل العناية بنفسه، وتُعزّز شعوره بالمسؤوليّة تجاه جسده. كلّما بدأ الطفل في ممارسة عادات النظافة في سنّ مبكّرة، أصبحت جزءًا طبيعيًّا من يومه، لا سيّما مع اقتراب دخوله إلى بيئة مدرسيّة أكثر استقلالًا.
عادات النظافة التي ينبغي غرسها:
- تنظيف الأسنان صباحًا ومساءً.
- غسل اليدين جيّدًا قبل تناول الطعام وبعد استخدام الحمّام.
- الاستحمام بانتظام، والتدرّب على تنظيف الجسم والاهتمام بالمظهر الشخصيّ.
- تغطية الفم عند العطس أو السعال، للوقاية من انتقال العدوى.
تعليم النظافة لا يجب أن يكون صارمًا أو مملًّا، إذ يمكن تحويله إلى نشاط ممتع باستخدام أناشيد الأطفال، أو الرسوم الملوّنة، أو القصص التي تساعد الطفل على فهم السلوك وتذكّره بسهولة.
المسؤوليّة والتنظيم
على الرغم من أنّ قيام الأهل بأداء المهامّ نيابة عن أطفالهم قد يبدو أسرع وأسهل، إلّا أنّ السماح لهم بتحمّل بعض المسؤوليّات اليوميّة يُنمّي لديهم حسّ الاستقلال، ويُشجّعهم على المشاركة في محيطهم بطريقة إيجابيّة.
خطوات عمليّة لبناء هذه العادة:
- اجعل ترتيب الألعاب بعد وقت اللعب جزءًا من الروتين اليوميّ.
- شارك الطفل في مهامّ بسيطة، مثل ترتيب المائدة أو سقي النباتات.
- استخدم التعزيز الإيجابيّ، مثل الثناء أو وضع ملصقات تشجيعيّة عند إتمام المهامّ.
- أنشئ مخطّطًا بصريًّا يُظهر المهامّ اليوميّة بشكل واضح وسهل التتبّع.
بهذه الخطوات، يبدأ الطفل في فهم أهمّيّة النظام والتعاون، ما يُمهّد لبناء سلوك منظّم وأخلاقيّات عمل قويّة مع مرور الوقت.
العادات الغذائيّة الصحّيّة
تتشكّل علاقة الطفل بالطعام بما يراه ويختبره في المنزل. غرس عادات غذائيّة متوازنة منذ البداية لا يساعد فقط على النموّ السليم، بل يقلّل من احتماليّة ظهور مشكلات غذائيّة في المستقبل، مثل الانتقائيّة أو الاعتماد على الأطعمة غير الصحّيّة.
عادات غذائيّة يُستحسن ترسيخها:
- تناول الفواكه والخضروات المتنوّعة ضمن الوجبات اليوميّة.
- اختيار الماء مشروبًا أساسيًّا، بدلًا من العصائر والمشروبات المحلّاة.
- الأكل ببطء، والانتباه إلى الشعور بالشبع من دون الحاجة إلى الإفراط.
- الجلوس على المائدة أثناء تناول الطعام، بعيدًا عن الشاشات والمشتّتات.
إشراك الطفل في تحضير بعض الوجبات البسيطة أو اختيار مكوّنات الطعام، يعزّز حماسه لتجربة أطعمة جديدة، ويُقرّبه من مفاهيم التغذية الصحّيّة بشكل عمليّ وممتع.
النشاط البدنيّ المنتظم
الحركة اليوميّة ضروريّة لنموّ الطفل الجسديّ وتطوّره الحركيّ، كما تسهم بشكل كبير في تحسين حالته النفسيّة. عندما يصبح النشاط البدنيّ جزءًا من روتين الطفل، تترسّخ لديه عادة الحركة والرياضة لتصبح وسيلة للتعبير عن الطاقة والتخفيف من التوتّر.
طرق دمج الحركة في الحياة اليوميّة:
- خصّص وقتًا يوميًّا للعب في الخارج، سواء كان ذلك بالجري، أو ركوب الدرّاجة، أو التسلّق، أو حتّى الرقص.
- في الأيّام التي يصعب فيها الخروج، ابتكر ألعابًا حركيّة داخل المنزل، تُبقي الطفل نشيطًا ومتحمّسًا.
- شارك الطفل في أنشطة بسيطة، مثل المشي أو تمارين التمدّد، أو حتّى اليوغا المناسبة للأطفال.
الحدّ من وقت الشاشة مقابل تعزيز اللعب الحركيّ يساعد في تطوير التوازن، والقوّة الجسديّة، والقدرة على تنظيم الطاقة.
الوعي العاطفيّ والتعبير عنه
لكي يتعامل الطفل مع مشاعره بطريقة صحّيّة، يحتاج إلى من يعلّمه كيف يلاحظ هذه المشاعر ويسمّيها ويفهمها. تطوير هذا الوعي يُعدّ خطوة أساسيّة نحو بناء علاقات متوازنة وإدارة الانفعالات.
خطوات لتعزيز الذكاء العاطفيّ:
- سمِّ المشاعر عندما يمرّ فيها طفلك: "يبدو أنّك محبط لأنّ اللعبة كُسرت".
- علّمه طرقًا لتهدئة نفسه، مثل التنفّس العميق أو العدّ ببطء.
- شجّعه على التعبير بالكلمات عمّا يشعر به، بدلًا من الغضب أو البكاء.
- تقبّل مشاعره من دون الحاجة إلى تغيير الموقف فورًا، فالاعتراف بوجود المشاعر يُشعر الطفل بالأمان.
المقصود ليس إخفاء المشاعر، بل فهمها والتعامل معها بطريقة مناسبة.
الاستماع واتّباع التوجيهات
الاستماع مهارة أساسيّة يتعلّم بها الطفل فهم الآخرين، وتلقّي التعليمات، والتفاعل مع البيئة من حوله. غرس هذه المهارة في سنّ مبكّرة يدعم نموّه الأكاديميّ والاجتماعيّ.
نصائح لبناء مهارات الاستماع:
- قبل إعطاء التعليمات، احرص على التواصل البصريّ مع الطفل، ولفت انتباهه بالنداء على اسمه.
- اجعل التعليمات واضحة ومناسبة لعمره، مع كلمات بسيطة ومباشرة.
- اطلب منه تكرار ما سمعه لضمان فهمه، وشجّعه على طرح الأسئلة إن لزم الأمر.
- امدحه عندما يُظهر انتباهًا جيّدًا، أو ينفّذ التوجيهات بدقّة.
الصبر والاتّساق في التوجيه يساعدان على ترسيخ هذه المهارة بشكل طبيعيّ في الحياة اليوميّة.
القراءة وحبّ التعلّم
يبدأ حبّ التعلّم من البيت، لا من المدرسة. ومن أبسط الطرق لترسيخ هذا الحبّ، جعل القراءة جزءًا من الروتين اليوميّ. فالقراءة لا تنمّي المفردات والخيال فقط، بل تعزّز التركيز والتفكير.
وسائل لتعزيز حبّ القراءة:
- اقرأ مع طفلك بصوت عالٍ يوميًّا، ولو لبضع دقائق.
- اترك له حرّيّة اختيار الكتب التي يحبّها، حتّى يشعر بالاهتمام والمشاركة.
- زُر المكتبات أو شارك في أنشطة مرتبطة بالقراءة.
- اطرح عليه أسئلة عن القصّة لتشجيعه على التفكير والتفاعل.
الطفل الذي يرى التعلّم ممتعًا ومتاحًا في حياته اليوميّة، سيكون أكثر استعدادًا للتعلّم والانفتاح على المعرفة مستقبلًا.
الامتنان والنظرة الإيجابيّة
تعليم الطفل تقدير ما لديه يُساعده في تكوين نظرة أكثر اتّزانًا نحو الحياة، ويقلّل من التذمر والشعور المستمرّ بالحاجة. كما إنّ تعليم الطفل الامتنان لا يقتصر على توجيهه لشكر الآخرين، بل هو أيضًا مدخل لغرس قيمة دينيّة عميقة: شكر اللّه على النعم. فحين يعتاد الطفل على ملاحظة الخير في يومه، ويتعلّم أنّ كلّ نعمة، كبيرة كانت أو صغيرة، فضل من اللّه، يترسّخ لديه شعور بالرضا، وتقلّ شكواه، ويزداد تقديره لما يملكه.
فالشكر ليس فقط خُلقًا محمودًا، بل سببًا في دوام النعم وزيادتها، قال تعالى: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ".
حلّ المشكلات والصبر
ليس من الضروريّ أن يتدخّل الأهل في حلّ كلّ عقبة يواجهها الطفل. من المفيد أحيانًا ترك مساحة له ليُجرّب بنفسه، حتّى يتعلّم التفكير والمثابرة وتحمّل الإحباط.
كيف تُشجّع طفلك على حلّ المشكلات؟
- اطرح أسئلة تساعده على التفكير: "ما الحلّ الذي يخطر في بالك؟".
- أفسح له المجال ليُجرّب، حتّى لو استغرق وقتًا أطول في إيجاد الحلّ.
- شجّعه على المحاولة من جديد عند الفشل، بدلًا من تقديم الحلّ مباشرة.
هذه التجارب البسيطة تُنمّي قدرته على اتّخاذ القرار، وتُعلّمه أنّ الصبر والتفكير يؤدّيان إلى نتائج أفضل.
***
لا تقوم تربية الطفل على السعي للكمال، بل على الوعي والنيّة الصادقة. حين يحرص الوالدان على غرس عادات صحّيّة وسليمة في سنوات الطفولة المبكّرة، فإنّهما يبنيان أساسًا متينًا لحياة تُصاحبها الثقة بالنفس، والقدرة على التفاعل بتعاطف، والانضباط في السلوك، وحبّ الاستكشاف والتعلّم.
هذه العادات لا تتطلّب إمكانيّات كبيرة، ولا نظامًا مثاليًّا، بل تعتمد على الاستمراريّة والهدوء والقدوة اليوميّة في بيئة آمنة ومشجّعة.
تذكّر أنّ الأطفال ينظرون قبل أن يسمعوا، ويقلّدون قبل أن يفهموا. لذلك، فتصرّفاتك اليوميّة، حتّى البسيطة منها، أوّل دروسهم، وأكثرها رسوخًا. قد تبدو بعض العادات التي تُعلَّم في الطفولة صغيرة في ظاهرها، لكنّها تترك أثرًا عميقًا يستمرّ مدى الحياة، ويُسهم في تكوين شخصيّة متّزنة، وسلوك إيجابيّ، وصحّة نفسيّة مستقرّة.
التربية رحلة، والعادات الطيّبة فيها بمثابة البذور التي تنبت مع الأيّام، فاختر ما تزرع، وامنحه وقتًا، وسترى الثمار بإذن اللّه.
المراجع
https://www.footprintseducation.in/blog/essential-healthy-habits-every-child-should-learn/