فنّ التدريس وأدواته
فنّ التدريس وأدواته

"إنّ التدريس المتميّز فنّ مثل الفنون الأخرى، كالرسم والنحت وكتابة الروايات، حيث يُسخّر المتميّزون بشكلٍ كبير كفاءاتهم ومهاراتهم باستخدام أدوات بسيطة تساعدهم على تحويل المواد الخام (من أحجار وأوراق وأحبار) إلى ركائز ذات قيم عظيمة للمجتمع. وهذه الكيمياء مذهلة جداً؛ لأنّ الأدوات غالباً، لا تكون جديرة بالملاحظة من قبل الآخرين. من كان سينظر إلى الإزميل والمطرقة والمبرد ويتخيّل القدرة على إنتاج تحفة فنية كتمثال داود للفنان مايكل آنجلو؟

كل فنان، وأيضًا المعلم، هو صاحب حرفة مهمته دراسة مجموعة من الأدوات والكشف عن أسرار استخدامها

يعتمد الفن المتميّز على اكتساب مهارات تأسيسية وتطبيقها، ثم إتقانها من خلال الدراسة الدؤوبة، وبمعنى أدق تحقيق "البراعة المهنيّة" إذا كنت تسعى لها. ومع مرور الوقت ستتعلم ضرب الإزميل بالمطرقة وصقل مهاراتك، علاوة على أنك ستتعلم في أيّة زاوية ستضرب الإزميل، وكيف ستمسكه بإحكام. وفي وقت ما، ربما بعد سنوات عدة، سيتمكن المراقبون من تقييم الفلسفة التي تعبر عنها الفنون التي قمت بإنتاجها، ولكن أكثر أهمية من أي نظرية كفاءتك في العمل مع الإزميل الصغير. ومن الحقائق المثبتة أنه ليس من يتعلم التحكّم بالإزميل قادر على أن ينتج قطعة فنية مثل تمثال داوود، كما أنه لا يمكن لأي شخص فشل في السيطرة على هذه الأداة أن يقوم بأكثر من بضع علامات على الصخور.

 

كل فنان، وأيضًا المعلم، هو صاحب حرفة مهمته دراسة مجموعة من الأدوات والكشف عن أسرار استخدامها. وقد يبدو الإزميل أداة مملة، ولكن كلما فهمتها أكثر، أرشدتك إلى الطريقة الصحيحة للكشف عن الفرص الصحيحة لاستخدامها. وعندما تقوم بتدوير زوايا محيط الشكل لتجعله ناعمًا بشكلٍ غير متوقع، سيجعلك الإزميل تدرك فجأة أن بإمكانك أن تضيف المزيد من الدقة على تعابير الوجه، والمزيد من التوتر على عضلات المجسم الذي تقوم بنحته، وبالتالي ستتغير رؤيتك له. إلا أن إتقان استخدام الأدوات لا يعني أن بإمكانك أن تنتج قطعة فنية؛ ولكنه سيرشدك إلى كيفية إنتاجها. وغالبًا ما تكون عملية الإنتاج غير جذّابة؛ فحياة الفنان هي كحياة التاجر، حقاً، محاطة بأنواع الأنسجة والغبار الحجري وتتطلب الكثير من الاجتهاد والتواضع، ولكن العائد هائل. فهو عمل يستحق قضاء الحياة من أجله.

فن التدريس

 

عندما سافرت إلى الخارج خلال بداية دراستي الجامعية، رأيت دفاتر بيكاسو المدرسية المعروضة في متحف بيكاسو في مدينة برشلونة. وأكثر ما أتذكره من هذه الزيارة هي الرسوم الأولية التي تملأ هوامش صفحاتها. لم تكن هذه الدفاتر دفاتر للرسم، بل عبارة عن دفاتر كتلك التي يدوّن فيها الطلبة ملاحظاتهم عن المحاضرات. ولكن هذه الرسومات الصغيرة خلّدت ذكرى لوجه معلم أو يد بيكاسو وهي تمسك قلم الرصاص وترسم من منظور وخطوط وتظليلات مثالية. كنت أعتقد دائمًا أن فن بيكاسو كان تجريدياً، أي طريقة تفكير تجعل الرسم غير دقيق ولا صلة له بالواقع، إلا أن رسوماته الأولية لها قصة أخرى، فهي تعكس إتقانه للأساسيات واندفاعه المستمر لصقل مهاراته. وحتى في لحظاته الحائرة خلال دراسته، كان يشحذ اللبنات الأساسية لأساليبه الفنية. فقد كان صاحب حرفة في الأساس قبل أن يكون فنانًا حيث استطاع خلال حياته ملء ما مجموعه 178 دفتر رسم تشهد على ذلك" (ص 1-2).

 

ليموف، دوغ (2018). التأكّد من فهم واستيعاب الطلبة، سلسلة علم بثقة 2.0. ترجمة أكاديميّة الملكة رانيا لتدريب المعلمين، دار المنهل ناشرون.